حسنٌ ما صرح به رئيس هيئة الهلال الأحمر الأمير فيصل بن عبدالله بأنهم سيرفعون «شكوى أمام الجهات المختصة ضد أي مسؤول أو موظف مهما كان في كل منشأة يكون سبباً في إعاقة ومنع الفرق الإسعافية من أداء عملها». فهذا التصريح ينسجم تماماً مع الالتزام الذي تعهدت به الحكومة السعودية حينما انضمت لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م، والبروتوكولين الإضافيين لها لعام 1977م، ومع قرارات ومبادئ الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. كما أن المادة الرابعة من تنظيم الهيئة السعودية للهلال الأحمر تنص على «إن الهدف الرئيس للهيئة هو السعي إلى منع وتخفيف حد المعاناة والآلام البشرية، دون تمييز أو تفرقة في المعاملة لأي سبب». وبموجب نظامها هذا نالت العضوية في هذه الحركة الإنسانية الدولية الهادفة إلى حماية الإنسان وصحته البدنية والنفسية، وضمان كرامته، وتخفيف المعاناة عنه بدون تمييز سواء كان رجلاً أو امرأة. فهناك ممارسات ووقائع جرت وقد تجري في بلادنا تعد نقيضاً لنص وروح هذه المبادئ. فوفاة المرحومة آمنة باوزير، ومن قبلها حادثة طالبات مدرسة مكة المأساوية ومُدرسة جدة لم تكن الأحداث الوحيدة التي وقف الهلال الأحمر والدفاع المدني عاجزاً عن تقديم العون والإسعاف في الوقت الحرج؛ حيث تتوفر في كل دقيقة الفرصة لإنقاذ نفس بشرية. فقبل ست سنوات توفيت شابة في محافظة القطيف بعد أن دعستها سيارة مجنونة وهي تمشي بمفردها ذاهبة إلى منزلها، وتردد مَن حولها في نقلها إلى المستشفى لأنها وحدها، ولم يكن هناك أحد من المتجمهرين عند موقع الحادث قادراً على التعرف عليها، وحينما استطاعوا الاتصال بآخر رقم في جوالها للتعرف عليها، صار الوقت متأخراً ولم يتمكن المستشفى من إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.
هذه الممارسة الخاطئة والقاتلة لم يُعِقها حارس، ولن تكون هناك قيمة لاحتجاج معترض لو تم نقلها إلى أقرب طوارئ في لحظتها، فلربما كتب الله لها حياة أطول مما عاشته. ما هي الحجة التي جعلت مَن حولها غير قادرين على تخطي قيود لنظام غير مكتوب إلا في عقولنا، يمنعنا من رؤية الأمور بمنظار إنساني حتى لو أدى إلى وفاة إنسان. هذا الموقف السخيف ليس شائعاً (ولكنه ممكن الحدوث)، ولم يأتِ تصريح رئيس هيئة الهلال الأحمر لأن مسعفين لم يتخذوا قرارهم المناسب في الوقت المناسب، وإنما جاء كرد فعل على منع الفرق الإسعافية من الدخول لكلية نسائية في العاصمة، وليس في قرية صغيرة، لتقديم العون لمصابة بحجة الاختلاط. وهو ما يتكرر باستمرار، ويجعل الهلال الأحمر عاجزاً عن القيام بأبسط وأنبل مهامهم.
إن الخوف من هذا البعبع الذي نسميه اختلاطاً هو العلة التي تسبب تكرار مثل هذه الحوادث الغبية؛ فَتَحْتَ حجة غياب المحرم قامت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنع مركز تغذية صحي في مدينة الدمام من إدخال المراجعات إلى اختصاصي التغذية؛ لأنهن يقمن بزيارة المركز وحدهن، وكأنهن ذاهبات إلى مركز لهو يعج بالماجنين.
إن النظر إلى مثل هذه الزيارات سواء كانت لطبيب أو اختصاصي تغذية أو تجميل بمنظار أنها تقود للمعصية والفاحشة تضعنا في رصيف تخطاه قطار الزمن. فالمرأة أو الرجل لا يحتاجان لمثل هذه الزيارات كي يرتكبا الفاحشة، وحينما يقوم الطبيب بمعاينة جسم امرأة مريضة فلن يمنع وجود «محرم» من قيام الطبيب بالكشف على عورتها المُغلظة. كما أن التحذير لدرجة التحريم من كشف المرأة عورتها للطبيب، يتسبب في تردد بعض النساء من زيارة الطبيب المختص في الوقت المناسب، وتلافي تفاقم أمراض نسائية خطيرة، يتنامى عدد المصابات بها بشكل كبير. ومن منبع نفس هذا المنهج الفكري توضع قيود على تدريب طلاب الطب أثناء ممارساتهم لدروس التشريح للجسم البشري تضعف (لو يتم التمسك بها) من امتلاك طالب الطب المعرفة العملية اللازمة لإعداده كطبيب مهمته إنقاذ حياة النفس البشرية، سواء كان لرجل أو امرأة. فالطب ليس من العلوم النظرية يتعلم الطالب فيها من الكتاب فقط، وإنما هو علم تجريبي لا يتقدم دون ممارسات عملية في المختبر وغرف التشريح والعمليات. لقد حد غياب وتقييد الممارسات التطبيقية الطبية، بما في ذلك التشريح والتجارب الكيميائية، من تطور الطب لدى العرب والمسلمين، رغم ما قدمه الأطباء المسلمون في فترة من فترات ازدهار الحضارة العربية من إسهامات كبيرة في تقدم الطب البشري. بينما استطاع الغرب الاستفادة من هذه الإسهامات والانطلاق بها دون حدود، بعدما تخلص من قيود الكنيسة وتحريمها للممارسات التطبيقية والعملية على الجسم البشري التي شكّلت في وقت من الأوقات عائقاً لتقدم الطب وخروجه من عباءة الخرافة وقيود الفصل بين الجنسين.
إن إشراك المرأة المهيأة والمدربَّة على تقديم خدمات الإسعاف ضمن طواقم العاملين في هيئة الهلال الأحمر، يعد قضية حيوية في توفير الطاقم الإسعافي القادر على التعامل مع جميع الحالات التي تواجه الهيئة في أعمالها الميدانية، فالتخلص من عقدة الاختلاط سيخلصها من أحد معيقات الارتقاء بمستوى ما تقدمه من رعاية لكلا الجنسين. إن التهديد بمقاضاة كل من يعيق عمل مسعفي الهلال الأحمر خطوة مهمة، ولكنها قد تأتي بعد فوات الأوان؛ لهذا يعد إصدار نظام صريح يجرِّم من يقف أمام عمال الإسعاف من تقديم خدماتهم تحت أي ظرف هو المَخرج لعدم فقدان «آمنة» أخرى بهذه الطريقة.