ربما لو طرحت إحصائية عن أقدم وأكثر المواضيع المطروحة سخونة في الشأن العام السعودي، فلن تكون الإجابة سوى: "قيادة المرأة"! ومع أن المرأة حازت على ميزات أهم على مدى السنوات الطويلة الماضية كالدراسة والعمل والظهور العلني في التلفزيونات ودخول مجلس الشورى، إلا أن قيادتها للسيارة كانت ولا تزال منذ 1990 أكثر المواضيع المطروحة جدلاً على الإطلاق! السبب في ذلك الزخم الذي تحظى به القضية الكلاسيكية، هو رمزية قيادة المرأة وكونها مفتاح لنيل بقية الحقوق المسلوبة ، والاعتماد على النفس، وعدم الرضوخ لسلطة الرجل، وهي في النهاية ما يعتبره الكثيرون حقا أصيلا للمرأة ولا يمكن التغاضي عنه، برغم اعتراضات بعض الإسلاميين الذين يرون ذلك تجاوزاً لخطوط الشريعة الإسلامية.
وفي الحقيقة، رفض البعض الموافقة على مطلب القيادة ليس نابعاً في الأغلب من عمق التزامهم بمحرمات الشريعة ، كون الكثير من رجال الدين السعوديين أفتوا بجواز ذلك وأنه مشابه لركوب الدابة، لكن السبب في رأيي هو خوفهم من العواقب التي تلي السماح بقيادة المرأة. فخروجها بلا سائق ذكر، يعني أن المرأة ستخلع ثوب الوصاية الذي ترتديه وستعتمد على نفسها، وذلك يعني التقليص بشكل كبير من سلطات الرجل، وبالتالي الانعتاق من تلك العبودية والتي -بالمناسبة- تكون أحياناً طوعية!
في المقابل، يتوهم بعض أفراد التيار الإسلامي أن تحررها من سلطة الرجل يعني أن المرأة ستندفع نحو الرذيلة بلا رادع، وذلك منطق استباقي يحاكم الفرد بناء على التوقعات.
لكن، لو نظرنا للموضوع من الأعلى، فالغريب في ملف قيادة المرأة أنه دائماً ما يتم تحريكه من قبل أحد التيارين الإسلامي والليبرالي في الفترات العصيبة ، لإيجاد التوازن واستمرار تقاذف الكرة بين الجهتين بعد كل حدث مهم يشغل الرأي العام، كأزمة السكن أو قضية المشاركة السياسية أو غلاء المعيشة وتدني الرواتب، لا سيما في ظل وجود العديد من الملفات الاقتصادية والسياسية الملحّة. هذا الصراع التيّاري القديم يتأجج كل فترة بقضية ساخنة، تكون عادة مختصة بالمرأة، كقيادتها للسيارة أو كشفها لوجهها أو حتى بيعها لملابسها الداخلية!
استمرار الجدل حول الموضوع دون حسم على مدى 25 عاماً، جعل الكثير من الأصوات المعتدلة تشكك في القضية برمتها، فهي لا تعلم لمصلحة من يبقى الصراع مفتوحاً طوال هذه السنين حول قضية مثل قيادة المرأة وعن المستفيد من جعل هذه القضية ميدان اقتتال فكري بين الإسلاميين والليبراليين. تلك المزاعم يؤكدها ما حدث قبل فترة حين انطلقت دعوات من حقوقيين وحقوقيات للخروج وقيادة السيارة يوم 26 أكتوبر، وقبل الموعد بيوم تغيرت أقوال بعض النساء وتخلين عمن قررن القيادة وطلبن من الجميع عدم الخروج والالتزام بقوانين الدولة.
يتساءل أيضاً أصحاب تلك الشكوك عن سبب بقاء الأمور عائمة وعدم حسمها بالموافقة أو المنع، فمرة يقال أن المجتمع هو من يقرر ولا يوجد نص يمنع قيادة المرأة، ومرة يتم معاقبة من تقود سيارتها ويتم التصريح بأن الحظر سارٍ. مع يقيننا بأن الحكومة قادرة على اتخاذ قرار سيادي وجريء كما فعلت عند سماحها بدراسة المرأة ودخول التلفزيون واستخدام التيليغراف.
هذا الطرح الجديد جعل البعض يرى قضية قيادة المرأة مشروع إلهاء يشترك فيه كلا التيارين، فالنساء لديهن أولوليات أهم، كحاجتهن لقوانين صارمة ضد التحرش، وضد زواج القاصرات، وضد التعسف والتعذيب والقهر، وقوانين لتنظيم الزواج والطلاق وتقنين التعدد، وعدم السماح للرجال بالتحكم بمصائر النساء. تأتي بعد ذلك الحاجة لقوانين تسمح لهن بالعمل والحصول على حياة كريمة دون الحاجة لرجل، كتسهيل التنقل عبر مواصلات عامة، وعدم التمييز بين النساء والرجال، والحث على تنويع المجالات المتاحة للمرأة العمل فيها، حيث تكاد تنحصر حالياً في الصحة والتعليم.
ويؤكد أنصار هذا الطرح أن تلك المطالبات من شأنها أن ترفع وصاية الرجل ليصبح أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً متساوين في الحقوق والواجبات الدنيوية كما خلقوا متساوين في الحقوق والواجبات أمام الله، ودون الحاجة للتركيز على قضية جدلية كقيادة المرأة التي أصبحت قضية رمزية أكثر من كونها قضية حقوق، والفوز بها يعني انتصاراً لتيار وانسحاب التيار المنافس من الواجهة لفترة طويلة، وهو ما لا أتوقع أن يُسمح بحدوثه!