أخذ ميدان الأبحاث النسوية منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، يواجه تحولا فكريا تمثل في تقاطع ما عرف بالتيار ما بعد النسوي مع النظريات الثقافية ونظريات ما بعد الحداثة، وقد أخذ هذا التقاطع المعرفي المستمد أساسا من ‘تحليل الخطاب’ الذي طوره ميشيل فوكو، يؤكد على أن أسلوب تكوين المعرفة والصيرورات المترتبة على انتاجها، هو بحد ذاته ذو معاني مجندرة من ناحية، وقائم بالأساس على ثنائية السلطة / المعرفة.
وكما في تحليل الخطاب، كان العامل الرئيس الذي أوحى بذلك التحول، والذي شكل القاعدة الأساس لنسوية الموجة الثالثة، هي تتابع كتابات ميشيل فوكو والذي أصبحت دراسته المؤلفة من ثلاثة أجزاء (تاريخ الجنسانية) من كلاسيكيات العلوم الانسانية والعلوم الاجتماعية. فقد أكد في هذه الأجزاء أن الجنسانية ليست حقيقة بيولوجية مقررة، وأنه يجري تقريرها تاريخيا وهي ليست مرتبطة بصيرورات القوة.
كما تم تعريف الجسد بوصفه فئة مركبة اجتماعيا ينبغي أخذها في الاعتبار خارج نطاق المفاهيم المعيارية للمورفولوجيات البيولوجية. بعبارة أخرى، كان رأي فوكو أن الجسد ذاته يجري انتاجه عبر الخطاب. واستنادا الى هذا الرأي، لا يوجد جسد سابق للخطاب يسجل عليه المجتمع قواعده وأنظمته أو معاييره، بل ان الجسد دائما ينطوي سلفا على دلالة من ناحية، وان الهوية الحقيقية تعبر عن حقيقة الجسد الفعلية، والعكس صحيح.
ورغم كثرة عدد منتقدي فوكو الذين عارضوا هذا التحول البراديغمي في نظرية المعرفة، بوصفها تتسم بالحتمية والاستبدادية، من دون أن تترك أي مجال لامكانية الارادة الفردية. فان تحليل الخطاب الفوكوي بات يبشر بحصول نقطة تحول نحو نظرية نسوية أكثر تفاعلا على المستوى النقدي، من خلال التقاطع مع نظريات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وما بعد الكولونيالية.
وقد أخذ هذا النقد القائم على حفريات ما بعد الحداثة، يؤثر على نحو خاص في مجالي النقد الأدبي وتاريخ الجسد والفن. بينما بقيت الأركيولوجيا، التي هي في الأساس مشروع فكري مادي، تراوح لأسباب عديدة مكانها في هذا المجال في الفترة الأولى من هذه التحولات، وذلك انطلاقا من أن هذه المعرفة كانت مشغولة بالبحث في اللاوعي واللاملموس، ولا يمكن عدها أسلوبا مناسبا للأركيولوجيا التي تعني بالاثاريات المادية.
بيد أن ثمة تغيير قد طرأ حاليا على مواقف الدراسات البحثية من هذه المسألة، من خلال رؤية جديدة للسياق الأركيولوجي الذي أخذ يتأثر جزئيا على الأقل، بالممارسات الأركيولوجية نفسها. فالنصوص والقطع الاثرية القديمة بات ينظر لها بوصفها نتاج لايديولوجيات ولشواغل تاريخية محددة، والى ما هنالك. أضف الى ذلك أن تفسيرات الدراسات البحثية المعاصرة للنصوص المذكورة لا يمكن فصلها، أيضا عن الأيديولوجيات الخاصة بزمانها ومكانها.
وبناء على هذا المنعرج الفكري في المنهجية الاجتماعية والأركيولوجية، تأتي هذه الترجمة لكتاب عالمة الاثار العراقية زينب البحراني (نساء بابل، شركة قدمس للتوزيع والنشر، 2013، ترجمة: مها حسن بحبوح) والتي تعمل أستاذة للفنون القديمة وعلم الاثار في جامعة كولومبيا الأمريكية ،حيث تسعى من خلال هذا النص الى تدشين مدخل للنقد النسوي لطلاب الشرق الأدنى القديم، عبر تقديم الدليل على أن المقاربات النظرية المعاصرة بامكانها طرح أفكار معمقة قيمة تضاف الى الأبحاث التاريخية التقليدية في هذا المجال، وذلك من زاوية نقد الوظيفة والدور الذي كانت وماتزال الى حد ما النساء البابليات تؤديه في المخيلة الغربية، عبر البحث في كيفية تأثير تلك الصور الخيالية، بدورها، في تفسيرات الباحثين للقى الأركيولوجية في بداية النشاط الأركيولوجي في بلاد ما بين النهرين. ومن ثم الطريقة التي فسرت بها الأبحاث التاريخية، بدورها تلك المواد. وذلك من خلال التركيز على العلاقة المتبادلة للاستشراق والامبريالية وبدايات علم الاشوريات.
وبرأي المؤلفة، فانه ينبغي لتحليل الخطاب الكولونيالي، أو النقد ما بعد الكونيالي كما صار يعرف في العلوم الانسانية، أن يكون ذا تأثير ملموس في مجال الأركيولوجيا، مثلما كان له تأثير في الدراسات الأدبية أو التاريخ أو الأنتربولوجيا الاجتماعية.
من خلال الأخذ في الاعتبار دور التباين العنصري، وهو ما ناقشه المرحوم ادوارد سعيد بدقة حيث جرت معادلة الشرق بالجنسانية، بالأنوثة، بالشهواني، وتسرب هذه الرؤية الى أعمال فنية لا يصنفها مؤرخو الفن بأنها ‘أنواع استشراقية’ تحديدا.
اللباس والعري والموت
ترى البحراني في هذا القسم من الكتاب، أن الجسد العاري في العصور القديمة كان قد شكل صورة مهمة مثقلة بالرمزية والمغزى الثقافي، بيد أنه وبرغم العديد من الأدلة المستمدة من النصوص والتصاوير القديمة حول هذا المعنى، فان تقليد تاريخ الفن، ونظرية الجسد عموما غالبا ما قدمت الجسد الغربي بوصفه الجسد المتمدن الذي يحمل دلالة ثقافية مقارنة، بجسد مجوهر غير غربي كانت تجري غالبا معادلته بالطبيعة. بينما في المقابل، وفي مفارقة ساخرة، كان سكان بلاد ما بين النهرين هم أول من صاغوا الفكرة القائلة أن الجسد المزين هو الجسد المتمدن.
والمثير برأي المؤلفة أن الأجساد المزينة المجنسنة في التصاوير البابلية لم تقتصر على تصاوير الأنوثة، بل شملت أيضا الجسد الايروتيكي للذكر مكتمل الرجولة. ومن هنا بدت الذكورة خاضعة لمنظومات انتاج جسدية شأنها شأن الأنوثة، ولا يمكن التفكير بها خارج نطاق ايديولوجية الجندر. ولذلك من الخطأ الاعتقاد، كما فعلت الكتابات النسوية الغربية في مجال العصور القديمة، أن التصاوير الأنثوية أيديولوجية، وأن النساء التاريخيات خاضعات للسيطرة، في حين أن الرجال خارج الايديولوجيا لأنهم كما يفترض هم المسيطرون على النظام المهيمن.
فقد كان ارتداء الملابس في فكر ما بين النهرين يعد معادلا أو مساويا، لكون المرء متمدنا. ويبدو هذا المفهوم واضحا في ملحمة غلغامش، عندما تعلم صديق غلغامش، انكيدو، الذي كان في الأصل ‘يستر جسده كما الحيوانات’، كيف يتمدن بأن يرتدي ثيابا. ولذلك كانت عملية ارتداء الثياب هي من حولته الى مخلوق متمدن. وهكذا فان عدم ارتداء الرجل للثياب، كان يعد في أسيقة معينة حالة همجية أو بربرية. ويبدو أن اكتشاف الجنسانية، الى جانب الاستحمام وتزيين الجسد، حول انكيدو الى مخلوق متمدن.
وفي سياق مرتبط بهذه النقطة، تتنبه الكاتبة وبحس ذكي في قراءتها لبعض الأيقونات البابلية التي تصور الحرب، الى أننا نجد في هذه المشاهد أن الرجل الغريب هو العاري بخلاف الاتي من بلاد ما بين النهرين الذي يرتدي الثياب. والواقع أن العلاقة بين العري والهزيمة في تصاوير الحرب جوهرية، وتعكس مواقف سكان ما بين النهرين تجاه التجريد من الثياب والموت في الحرب أو الموت بمعناه العام. ففي الأساطير السومرية، رسل العالم السفلي يأسرون الاله تموز، المشرف على الموت، ومن ثم يجرد من ثيابه. وبذلك جرى تحضير تموز للهبوط الى العالم السفلي بأن جرده الذين أرسلوا لهذا الغرض من ثيابه. وفي أسطورة عشتار الى العالم السفلي، جردت الالهة عشتار من ثيابها قبل دخولها عالم الموتى. وبما أن للعالم السفلي قوانينه الخاصة التي فرضتها الهته، كان على عشتار الولوج عبر سبع بوابات متتالية، وعند كل بوابة كان عليها خلع قطعة من ملابسها أو من حليها. وبذلك لم تستطع عشتار دخول العالم السفلي قبل أن يقوم حارس البوابة في النهاية بتجريدها من الثوب البهي الذي يستر جسدها عند البوابة السابعة.
عشتار : رمزية التمدن الشرقي
هذا الفصل هو من أغنى الفصول تحليلا وتأويلا، وفي هذا السياق ترى البحراني بأن الأدبيات البحثية الغربية غالبا ما نسجت صورا خيالية جامحة ومغرية للبغاء الديني والممارسات الجنسية المحرمة حول آلهات تاريخيات، وأصبحت تلك الأوصاف في نهاية الأمر جزءا من صورة خيالية أكبر للعصور القديمة في الشرق. ورغم الاحترام الذي حظيت به عدة الهات في الديانة القديمة في بلاد ما بين النهرين، فان أيا منهن لم تجتذب اهتمام المرويات التاريخية المعاصرة حول بلاد ما بين النهرين بقدر ما اجتذبته عشتار، إلهة الحب والحرب. حيث تحولت عشتار، في الأبحاث المعاصرة، التاريخية منها وتلك التي تتناول العصر البابلي/ الاشوري الى موضوع للنقاش يمثل تحديا من حيث امكانية تفسيره. فقد أسرت شخصية هذه الالهة الغامضة والمتناقضة، واللغة الجنسية الفاضحة للتراتيل الدينية المخصصة له، خيال الباحثين النسويين وعلماء الاشوريات التقليديين، على السواء.
ففي الكتابات النسوية الأولى في علم الاشوريات، كان يقال ان أفضل وصف لشخصية عشتار المعقدة واللاعقلانية هي أنها ثنائية القطب، فالطبيعة المغوية جنسيا لعشتار والممزوجة بنزعتها للعنف أدت الى الاستنتاج بأن عشتار كانت ‘خنثى’ أو ‘مزدوجة الجنس′.
ويجري الاستشهاد بعادة ارتداء ملابس الجنس المغاير في الطقوس الدينية المرتبطة بعشتار للتدليل على طبيعة هذه الالهة الخنثوية أو ثنائيتها الجنسية.
وبرأي الكاتبة تتنامى اشكالية هذا الطرح عندما نعرف أن لا شواهد على وجود الكائن الخنثوي، الذي يجري تخيله في الفنون البصرية في بلاد ما بين النهرين عادة بصورة شخص يحوي جسده ثديين نسائيين مكورين اضافة الى عضو ذكري، الا في الفترة التي تلت الغزو الهلنستي، ويبدو أن الصورة كانت جنسية مستوردة. كما أن طقوس تبادل الملابس بين الجنسين ربما كان يتعلق – حسب ما تبينه القراءات الأنتربولوجية- الجديدة بأشكال من اللباس التنكري، حيث يجري تأكيد الهويات المجندرة المعيارية من خلال عكس الأمور.
ومن هنا تعتقد البحراني بأن تحديد هوية عشتار بأنها خنثوية، يعود في الحقيقة الى بدايات القرن المنصرم، الذي تأثر الى حد ما بالثقافة الشعبية التي كانت سائدة في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر. والتي غالبا ما عملت على تصوير، المرأة الشرقية، الجارية، عادة بأنها تحمل ميولا سحاقية. ويتجلى ذلك في اللوحة الشهيرة ‘الحمام التركي’ بريشة الفنان الفرنسي جان انغرس، من خلال ظهور نساء عاريات يضطجعن على الارائك متكاسلات في ما يظهر وكأنه انغماس في فعل جنسي داخل حمام تركي عام.
بعد هذا التفكيك للمخيال الاستشراقي الأوربي حيال سردية الالهة عشتار، تختتم الباحثة كتابها بتقديم تأويل ‘اثنوأركيولوجي’ جديد لهذه الأسطورة، بالقول ان شخصية عشتار وتجاوزاتها كانت تعمل على توضيح الأدوار المجندرة لسكان ما بين النهرين من خلال رسم حدود السلوك المجندر الطبيعي. وبالتالي يمكن قراءة دور عشتار ما بين النهرين بما هو دور يوضح حدود السلوك المتمدن. ففي المجتمعات البطركية، مثل مجتمع ما بين النهرين، لا يعتبر العنف مجالا للمرأة وبالتالي، لا يمكن لامرأة أن تتصرف بعنف سوى ان كانت خارجة عن حدود السلوك المتمدن، أي عن حدود الحضارة.
وبالتالي تجعل هذه الحدود القصوى والتناقضات المجتمعة في شخصية عشتار منها الرمز الأسمى للتباين. وبوصفها الالهة التي تمثل كل ما هو جامح وخارج عن نطاق التنبؤ وهامشي في مجتمع ما بين النهرين، فانها ترمز الى ما هو غير ثابت أو ما هو خارج الصيغ المقبولة للسلوكيات. ولذلك عشتار تشخيص للفوضى وللمهمش في ثقافة ما بين النهرين، وهي بذلك تشخيص للتغيرية أو الاخرية، اخرية ترمز الى ما هو مختلف عن العرف المجتمعي المتمدن.