الساعة السابعة مساء، تنزل كَكُل يوم من منزلها، يرمقها جارها بعين الشكّ، ويتثبّت من مظهرها. تنورة كُحليّة بسيطة، قميص أبيض مُقلّم، وحذاء لم تُغيّره منذ عاميْن تقريبا. يتفحّص شعرها فإذا هو مشدود إلى الوراء.
يهمس لزوجته:
"ها قد خرجت مبروكة الآن من دارها، تاركة أطفالها نياما. ليتني أعلم أين تذهب في هذا الليل."
تردّ زوجته في عصبيّة:
"وماذا لك عندها لتسأل؟ أم تريد أن تتبعها وتستعيد معها شبابك أيها العجوز الأحمق؟ مادامت تخرج ليلا، فهذا لا يعني إلاّ شيئا واحدا، أنها تتوجّه نحو الماخور الذي تعمل به والعياذ بالله"
"أعوذ بالله من غضب الله" يتركها ويقف في الشرفة متابعا خطّ سير الجارة.
تترك مبروكة البناية، وتستقل الحافلة نحو المستشفى حيث تعمل ممرّضة منذ سنوات طويلة. اختارت العمل بمناوبة الليل لتتمكّن من تحسين دخلها، وتتفرّغ نهارا لزبائن ماكينة الخياطة، ولبِنْتيها.
منذ وفاة زوجها، وهي العائل الوحيد لهما، كان المرحوم عاملا يوميا، يعمل برزق يومه، ولم يترك لها معاشا رسميا يحفظها من غدر الزمان. مُرتّبها لم يكن ليكفي طفلتيها، وإيجارَ البيت وفواتير الماء والكهرباء والغاز، فاختارت أن تسلك الطريق التي تفتح باب النميمة بين جاراتها، وفي دكان الحيّ، وحتى بين الأطفال وهم يلعبون. أبعدت الفتاتيْن إلى مدرسة غير تلك التي يرتادها أطفال الحيّ القديم حيث كانت تقطن، وملأت أوقات فراغهما بأنشطة في نوادٍ ثقافية بعيدة أيضا، ورغم ذلك كانت تخاف أن يصل إحداهما خبرا من أحد أبناء الجيران مرتبطا بالتساؤلات السخيفة عن خروجها ليلا. كبرت البنتان فانتقلت الأم بهما إلى حيّ آخر، لعلّها تستمتع ببعض الخصوصية والهدوء معهما.
السابعة والنصف صباحا، تهمّ مبروكة بفتح باب البيت، بينما يقف العم عبد الحفيظ خلف باب داره، يتلصّص عليها من الثقب، وفضوله يكاد يقتله لكشف "سرّ" هذه المرأة التي لم تتخطّى الأربعين من عمرها بعد، والتي لم تكمل شهورها الأربعة في هذه البناية. تُمسكه زوجته من قميصه في حِنْق وتجرّه نحو الداخل.
لم تفتح مبروكة الباب يوما سوى لزبائن خيطها وإبرتها، ولم تدخل مرّة لبيت إحدى الجارات ولو لدقائق. يمرّ يوم العطلة جميلا في تنظيف جماعيّ للمنزل، ثم غداء في حديقة عمومية، أو فسحة أو فرجة في السينما أو المسرح مع بنتيْها. صبيّتان بعمر الزهور، صارتا تتفهّمان الوضع جيدا، وتسخران من كلام الناس، ولم تُجيبا يوما على سؤال "أين تذهب والدتكما؟" لا لشيء، إلا لأنه تدخّل علنيّ في حياة هذه العائلة الصغيرة.
هذه المرأة البسيطة في هيأتها، المُرهقة من الجري وراء قوت ابنتيْها، ليست الوحيدة التي تستفيق على وقع العمل ليلا، فمثلها كثيرات، ينحتْن في الصخر من أجل لقمة العيش، معينات منزليات، وعاملات في المصانع، وغيرهن كثيرات. أما العم عبد الحفيظ فهو إحدى العيون التي ترقبها من بعيد بفضول، لا لشيء، إلاّ لأنها امرأة خرجت للعمل ليلا دون استشارته، أو دون أن تضع على جبينها شارة تقول "عفوا أنا لا أعمل في ماخور".