بعيد مهرجان عكاظ، مار الذكر، قام أول ناد نسائي باسم [نادي النهضة النسائية]. وكان من مؤسسيه زوجات بعض الوزراء المشهورين، ومنهم نوري السعيد. ثم انفجرت معركة السفور والحجاب في توازن للقوى غير متكافئ لصالح المحافظين المتزمتين. ولكن النساء الشجاعات والمثقفين والساسة الواعين والجريئين قاوموا التيار، وشقوا الطريق تدريجيا، يساعدهم تطور الحركة النسائية في مصر وبلدان عربية أخرى، وتأثير التيارات العالمية لصالح المرأة. وللتدليل على عنف المعركة، الاجتماعية والثقافية، المذكورة نشير لأبيات شاعر مهووس بالحجاب وهو إبراهيم ادهم، حين يقول:
“رايت في النوم إبليسا، فقلت له
جدَّ الشياطين: لا تبخل بتبيانِ
فقال مرتجلا بيتا أجاد به،
وكان مختفيا عن كل إنسانِ
سل السفوريَّ عما تستشير به
إن السفوري من جندي وأعواني”
وقال حسين الظريفي:
“يريدون هتك المحصنات وجوهها
ويرجون أن يلقوا بتلك الستائرِ”
وإذا كان الزهاوي قد تراجع عن دعوة السفور تحت التهديد في العهد العثماني، فإنه يعود ليهتف بصوت عال:
“مزقي يا ابنة العراق الحجابا
واسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيه.. واحرقيه.. بلا ريث
فقد كان حارسا كذابا”
وفي بداية الثلاثينات تصدر أول مجلة نسائية باسم [ليلى] لصاحبتها بولينا حسون.
ومع بروز التيارات التقدمية والديمقراطية في الحركة السياسية العراقية، راحت الحركة من أجل تقدم المرأة تسجل مكسبا بعد مكسب. ومنذ منتصف الأربعينات وفي الخمسينات شهد العراق طفرات في النهضة النسائية في كل الميادين. ففي الثلاثينات وما بعدها ظهرت العشرات والعشرات من المربيات والجامعيات والأديبات والشاعرات والمحاميات والقاضيات والسياسيات اللامعات والطبيبات والصيدليات والرسامات والمغنيات والرياضيات وغيرهن، ومن مختلف الأديان والمذاهب والعروق. وساد السفور في الكليات، وجرت سباقات لكرة القدم بين فرق نسائية. وتتوجت النهضة بتبؤ المرأة لمنصب الوزيرة عام 1959 وصدور قانون للأحوال الشخصية يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث .
كان واجبا ذكر أسماء جميع أولئك النسوة اللواتي قدمن المآثر في حياة العراق الحديث، وفي مختلف المجالات، وكن كواكب منيرة في سماء العراق، ولكن ذكر الأسماء يضيق به المجال. كما قد تفوتنا الذاكرة فننسى أسماء لامعة أخرى تستحق الذكر. ولعل القارئ المهتم بالموضوع قادر على الحصول على التفاصيل الوافية الواردة في الكتب والدراسات، والتي قد يكون العم غوغول قد خزن بعضا منها.
استمرت فاعلية المرأة وإضاءاتها المشرقة حتى أواخر السبعينات، لتنتكس المكاسب تدريجيا مع الحروب الداخلية والخارجية، ومع حملات القمع والتهجير، لاسيما بعد حرب الكويت، والانتفاضة الفاشلة، وتدشين ما سمي ب”الحملة الإيمانية.” لقد راح الحجاب يشق دربه، وراجت رسميا مقولات إن مكان المرأة هو البيت، وازداد عدد الأرامل. وأخذت عصابات عدي تقطع رؤوس النساء اعتباطا بالسيوف بحجة الزنا، وتعلق الرؤوس على أبواب البيوت. ولا ننسى ما تعرضت له الناشطات التقدميات والديمقراطيات في عهد انقلاب 8 فبراير – شباط- 1963، وفي العهد الثاني للبعث، والمقابر الجماعية، وإجبار الزوجات على الطلاق من الأزواج المحسوبين على خانة ” التبعية لإيران”، وقانون إعفاء قتلة المرأة باسم غسل العار من العقاب (وقد سحب القانون بسبب ردة الفعل الدولية).
لقد تراجع دور المرأة العراقية ومكاسبها مع تدهور الأوضاع العراقية وصعود التيارات الأصولية الشرسة في العالمين العربي والإسلامي، لاسيما مع انتصار الخمينية. وعندما سقط النظام العراقي السابق وهيمن الإسلام السياسي على مقاليد البلاد، ازداد تدهور وضع المرأة أضعافا. ومن المثير أنه منذ الأيام الأولى كانت تشاهد لافتات على جدران بعض الجامعات تقول إن خير النساء من لا يشاهدن الرجال ولا يشاهدهن الرجال! صحيح أن في البرلمان اليوم برلمانيات، ولكن بينهن فريقا من المؤمنات بأن الرجال قوامون على النساء. ومنهن من ينفثن رياح الطائفية حتى في مناسبات سباق كرة القدم. وقد صدر عام 2004، بمبادرة الأحزاب الشيعية، قرار يلغي القانون الجريء لعبد الكريم قاسم للأحوال الشخصية ويحل محله سلطة أحكام الشريعة. وقد فشل إمرار القانون تحت ضغوط المعارضات والمعارضين، ولكنه فرض في الدستور الدائم الذي صاغته وفرضته تلك الأحزاب نفسها.
لقد تراجعت أوضاع المرأة العراقية مع التدهور العام في الوضع العراقي، وزيادة الفقر والبطالة والقمع، وانفلات التطرف الديني والعادات العشائرية البالية بخصوص المرأة. ونجد أنه حتى في إقليم كردستان، كيف تدهور وضع المرأة الكردية التي كانت معروفة بالانفتاح والتحرر، وشهدت كردستان مئات من المآسي النسائية بين قتل وحرق أو إجبار على الانتحار حرقا باسم غسل العار أو عدم الخضوع لرغبات رجال العائلة. ووصلت ظاهرة هذه الجرائم الوحشية لدول الغرب المضيفة، كما جرى لفتيات ونساء كرديات في السويد وغيرها. كما نصطدم بظواهر غريبة في العراق، كإجراء المسابقات الجامعية النسائية بإشراف وحضور المسؤولين لمن تسبق غيرها بالزي “الإسلامي”*، وهو نوع من الحجاب الطالباني أو دونه قليلا. ورأينا صور حفلات زيجات جماعية في الجامعة وفتيات بالنقاب. وقد صار العراق البلد الأول في زواج القاصرات وباعتراف مسؤولين عراقيين- ناهيكم عن تقارير الأمم المتحدة.
وهكذا، فإن أوضاع امرأة مرتبط تماما بالأوضاع العامة. وإن قضية المرأة مرتبطة بقضية الرجل. إنها قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان وتنفيذ الاتفاقيات الدولية الخاصة بهذا الشأن، والتي سبق للعراق أن وقع عليها. ولم يعد خافيا، سواء بالنسبة لما حل بدور وحقوق المرأة العراقية، أو المرأة المسلمة عامة في البلدان العربية والإسلامية، أن الأصولية الدينية الإسلامية، وبكل درجاتها وأشكالها ومذاهبها، هي العدو اللدود لحرية المرأة وكرامتها وللديمقراطية وقيم المساواة والعدالة والتسامح.
لقد هوجمت في العراق إضاءات المرأة من جانب عشاق الظلام والتخلف والاستبداد. ولكن هذه الحملات لن تثني المرأة الواعية والرجال الواعين عن مواصلة الكفاح مهما كانت الصعاب. ولا تزال لدينا نساء عراقيات لامعات، داخلا وخارجا، ومن أبرزهن زهاء حديد. وهن دليل على أن جحافل الظلمة عاجزة عن إطفاء الأنوار.
…………
*الحجاب الإسلامي النموذجي على حد وصف داعية أصولي:
“أن يكون ساترا لجميع البدن. أن لا يشبه ملابس الرجال ولا الكافرات… أن يكون واسعا غير ضيق… أن لا يكون معطرا… أن لا يكون شفافا… أن لا تكون به زينة.. أن لا يكون لباس شهرة…”؟؟؟!!!!