في هذه المرحلة التاريخية، يدشّن الشعب التونسي كما الطبقة السياسية عهد "جمهورية ثانية" بإنهاء كتابة فصول دستور جديد، لن ندخل في تفاصيل فصول الدستور ولا في حيثيّات كتابة بنوده. ولكن يهمّنا في هذا المقام المقاربة التأسيسية في حدّ ذاتها. فالتأسيس يعني نظريا إعادة البناء وهذا يستوجب منهجيا الانتهاء من عملية تفكيك منظومة سابقة ( اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية). عاشت تونس منذ أكثر من ستة عقود على وقع مقولات "التحديث" و"العصرنة" والالتحاق بركب الأمم المتحضّرة. سؤال النهضة العربية وقع طرحه منذ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، الإصلاح الفكري والاقتصادي والسياسي شغل روّاد النهضة في تونس كما في بقية البلاد العربية، منذ نهاية القرن التاسع عشر مع جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. أخذ همّ الإصلاح السياسي ومحاربة الاستبداد الاهتمام الأكبر والأوّل عند روّاد النهضة، لسببين رئيسيين: الأول حالة الضعف والفساد السياسي التي أصبحت عليها الخلافة العثمانية (الرجل المريض) ، الثاني تأثّر هؤلاء المصلحين بحركة التنوير الأوربية. للأسف بقيت أسئلة النهضة معلّقة، وعملت قوى الاستعمار الأوربّي على فرض أجوبتها، والقيام بــ"رسالتها الحضارية المشرّفة"، عبر تحويل أغلب بلدان العالم العربي الإسلامي إلى مستعمرات تابعة لسلطة جمهوريّاتها الديمقراطية. اخترق المستعمر الفرنسي ثقافة المجتمع التونسي، وحطّ رحاله غارسا بنيات دولته الحديثة خاصة في المناطق الساحلية والعاصمة الإدارية بهدف خدمة مصالحه الاستعمارية الاقتصادية والإستراتيجية. تاركا الأرياف والمناطق الداخلية، التي لا مصالح له فيها، تجترّ الفقر، والتهميش وقساوة الحياة. فرضت دولة الاستعمار، عبر بعض العائلات الأرستقراطية، أنماط عيش جديدة. كما لعبت البعثات التبشيرية دورا في تهجين اللّغة والعادات والتقاليد، وكرّست البعثات العلمية عقلية الانبهار بالغرب وقيمه الحداثية. وما سهّل عملية الاختراق هذه، البنية الهشّة للمجتمع التونسي، حيث أنّ التاريخ والجغرافيا جعلا من تونس وشعبها بوّابة غير موصدة أمام الوافد الأجنبي غازيا كان أو فاتحا او محتلاّ (القرطاجيين، البونيقيين، الرومان، والوندال، والبيزنطيين، والعرب، والأتراك، والأندلسيين-الأسبان، والقراصنة والفرنسيين). تميّزت التضاريس بالسهولة والشعب بالتسامح والانفتاح. لم يجد بورقيبة مقاومة كبيرة أمام إتمام مشروع "التحديث"، وكانت "المرأة" وحرّيتها هي الورقة التي راهنت عليها دولة "الاستقلال" الأولى. استغلّ بورقيبة التوجّه التحرّري لبعض الحركات النسائية التونسية (وعلى رأسها الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي)، ليحتويها أولا وليدجّنها ثانيا (تعيين وسيلة بن عمّار رئيسة شرفية للإتحاد الوطني للمرأة التونسية الذي كان يسمّى الإتحاد القومي النسائي التونسي، ثمّ القضاء على النفس التحرّري والمعارض، بالتجاهل التام لبشيرة بن مراد، ثمّ إيداع راضية الحدّاد السجن وعزلها عن قيادة الإتحاد..). كما تبنّى بورقيبة الأفكار الإصلاحية الجامحة، للطاهر الحدّاد، وقام بتوظّيفها في مشروعه "التحديثي". ربّما كان بورقيبة، الشاب المحامي المتخرّج من المدارس الفرنسية، حداثيا متشرّبا لقيم الديمقراطية الغربية، وربّما كان يحمل مشروعا له توجّه إصلاحي، لكنّ الأكيد انّه كان "رئيسا عربيا"، ورث دولة المُستعمر الفرنسي، حكم بسلطة الكاريزما وشرعية الزعيم المنقذ، وليس بعقلانية القانون ولا بشرعية المؤسّسات، ولم يوظّف أجهزة "الدولة الوطنية" لخدمة المصلحة العامة. ألغى بورقيبة جميع منافسيه السياسيين (فرحات حشّاد وصالح بن يوسف)، وأنهى جميع قصص بطولات التحرّر الوطني (لزهر الشرايطي، والفلاقة)، كتب تاريخ تونس بلغة الحزب الواحد والزعيم الأوحد. بورقيبة حرّر تونس من المستعمر، وطهّر حزب الدستور من الخونة، وكسر قيود الرجعية والتخلّف عن المرأة التونسية، هكذا درست أجيال ما بعد الاستقلال تاريخ تونس.
لا أحد يُنكر أنّ مجلّة الأحوال الشخصية ساهمت في رسم صيرورة تحرّر المرأة التونسية، لكن هل كان من المنطقي في تلك الفترة من تاريخ تونس مناقشة مسألة تحرّر المرأة خارج سياقات قمعها القومي، بصفتها تنتمي إلى مُجتمع أنهكته السياسات الاستعمارية. المستعمر الذي ترك خلفه تفاوت هائل في النمو بين مختلف جهات البلاد، وفوارق عميقة اجتماعية واقتصادية بين الساحل ومناطق الشمال الغربي والوسط الغربي. لم يكن التفاوت يقتصر على النواحي الاقتصادية والإدارية والعمرانية، بل كان يشمل الثقافة والسلوك والفكر. خلّف الاستعمار الفرنسي في تونس ثنائية القطاع العصري والقطاع التقليدي، الأوّل يمثّله سكّان الحاضرة والنخبة العصرية،التي درست في المدرسة الصادقية، وتخرّجت من الجامعات الفرنسية، والثاني يمثّله سكّان الريف والنخبة التقليدية التي تلقّت تكوينها في الكتاتيب والمدارس القرآنية وتخرّجت من الجامعة الزيتونة. ونتج عن هذه الثنائية، انشطار في الوعي والسلوك داخل مختلف مؤسّسات المجتمع. وتأثرت قضية تحرّر المرأة بهذه الازدواجية، وطُبعت بشكل عميق بهذه الثنائيّات. حيث أنّ دولة الاستقلال –دولة الحزب الواحد، والنظام الجمهوري المشوّه، والديمقراطية الهجينة- مثّلت الظاهرة: "الازدواجية والانشطار" في أعلى تمثّلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إذ عملت على تعميم مظاهر التحديث، بإقرار مجلة الأحوال الشخصية، وتعميم التعليم العصري، ودمج خريجي الجامعة الزيتونية في الوظائف العمومية، وإقرار بعض التجهيزات الأساسية على مستوى الإدارة، وتوفير الخدمات العمومية على صعيد التعليم والصحة. وفي نفس الوقت حافظت على مركزية الدولة، وأولوية المناطق الساحلية في مخطّطات التنمية وبرامج الإستثمار العمومي والخاص.
النمط المجتمعي الذي اختاره بورقيبة لتونس، لم يكن وليد بحث في وضعية المجتمع وقضاياه، ولا ثمرة دراسة لقضاياه في سياقها الاجتماعي العام، وصدور مجلة الأحوال الشخصية، لم يأت نتيجة ربط بين قضية تحرّر المرأة وقضية تحرّر المجتمع عموما. عزل بورقيبة قضية تحرر المرأة عن سياقات التحرّر الوطني وضرورة تخليص المجتمع من مخلّفات آلة الاستعمار، ولم يقم بتفكيك العدوّ الأول للمجتمع التونسي ألا وهي عناصر النظام القمعي الذي كرّسه المستعمر. واهتمّ بمعالجة قضية، على أهمّيتها، لا تشكّل سوى متغيّرا واحدا من مجموع متغيّرات معقّدة ومركّبة لمجتمع كان يرزح تحت ثقل الهيمنة الاستعمار.
سياسات التحديث المسقطة، أعادت إنتاج ظاهرة الثنائيّات المتنامية، التي بقيت متغلغلة في جسم المجتمع، تفاقمت الازدواجية الثقافية والاجتماعية داخل المجتمع، و تعمّقت الفوارق الاقتصادية بين الجهات إلى درجة أن اللاد انشطرت إلى نصفين: نصفها العصري "الحديث" الذي يحاكي العواصم الأوربية في مستوى الحياة ونمط العيش. ونصفها المفقّر والمهمّش الذي يمثّل عالم الموروث الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الذي ينتمي بمجمله إلى مظاهر الجمود والتخلّف. وليس بغريب أن الكثير من مظاهر التطرّف وأعمال العنف تجد دوافعها ومبرّراتها الاجتماعية والاقتصادية في هذا الظلم الذي كرّسته ثنائيات العصرنة وازدواجية خطاب التحديث، إضافة إلى غياب الديمقراطية وسياسة الإقصاء والتهميش.هي إحدى أهم مظاهر الدولة الوطنية الحديثة التي ورثت المستعمر وأقامت حكمها على غراره، مستنسخة هياكل مؤسّسات المستعمر ووظائفه: دولة مركزية تنصّب نفسها وصية على المجتمع ككلّ، تراقبه وتسيره وتبتلعه إبتلاعا.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، بعد التذكير بهذه السياقات التاريخية: هل ستخفّف الثورة، والمقاربة التأسيسية من تذليل وقع هذه الازدواجية والانشطار، والتقليص من حدّة التفاوت العميق بين الجهات، والتفاوت العريض بين النخب؟ أمّ أنّ الثورة عرّت التفاوت وفضحت الازدواجية، وأبقت الطبقة السياسية على نفس مقاربة التحديث التي ورثتها على الدولة الوطنية الأولى والثانية، التي ورثتها هي بدورها على دولة المستعمر؟ وهذا ما عمّق الفوارق، وجعل ثنائية التفاوت بين المركز والأطراف تزداد تجذّرا واستشراء؟ والشعور بالظلم والقهر يزداد انتشارا داخل "الشعب العميق"، وأنتج هذا الغضب والتطرّف الذي تحوّل إلى أعمال عنف تمارس باسم الدين أو غيره.؟
سواء كان الجواب بالإيجاب أو بالنفي، يبقى السؤال مطروحا على النخب الوطنية، وعلى مكونات المجتمع المدني، هل تمثّل قضية المرأة وأسئلتها القديمة ضرورة ملحّة في هذه المرحلة من تاريخ تونس؟ أم أنّ هناك أسئلة جديدة أكثر إلحاحا، تتعلّق باستحقاقات مجتمع شطر جسمه الاستعمار الفرنسي، وكرّست ثنائيّة فوارقه مناويل تنموية تابعة، وخاضعة لإملاءات منظمات المال العالمي والبنوك والصناديق الدولية؟