شاءت الاقدار ان يدخل ناصية شارع سُكانه يحبون الطبل والرقص، كان ذلك مذ رمت به الايام جحشا مشردا.. فراقت له رائحة الدخان الذي يحرك براعم أنفه، تشقق منخاره ليجد نفسه طائرا بجناحين...كلما ارتفع زاده الدخان المستنشق ثبورا بعالم اسطوري...
حسد ساكني هذا الشارع، سار الى جانب الحائط القريب من مكان شم عنه رائحة بني جنسه، اختلس نظرة سريعة خوفا، لكن ما شاهده جعله يمد ببقية رأسه... دهش!! من تلك المجموعة من الحمير التي اصطفت الى جانب بعضها البعض تلوك مشتركة من كومة الحشيش المكوم امامها، الى جانب كمية تحترق في وسط المكان وهي تترنح على موسيقى آلة التسجيل التي غدا صاحبها مترنحا أيضا وهو يسحب من زجاجة يراها أول مرة هالة من الدخان... الجميع في عالم ثان، رآه احد الحمير فنهق عليه بقول: هيه .. ماذا تفعل هنا؟ إنك لا زلت جحشا! كيف لك ان تدخل عالم الحمير هذا المغطى بدخان الضياع؟ لم يعي قوله فأجابه إنه ليس من هذا المكان وإنه قد مل حياته، خاصة بعد ان راح كل من كان يمت له بصلة، فرام التجوال عله يجد ما ينشد وأظنه وجده..
دارت رؤوس الحمير بعضها يتطلع الى بعض دون مبالاة، إلا أنها رحبت بالقادم الصغير، ثم عادت تلوك بفوكوكها، تهز ذيولا طربت طردا للذباب المتواجد خدرا على اجسادها، هُم كذلك لم يكن باستطاعتهم الطيران فحطوا على ما حسبوه ملاذا من تشرد... فَعَزَت أنفس بغرز ألسنة تلسع من شاكلهم في حياة، لكن ذيلا تاهت أعصابه من انفلات راح يصفقها حتى الموت... دنا من صاحب المكان حتى جعله يستشعر بوجوده، رحب به دون أن يسأل، قام اليه والجحش متوجس خيفة منه داعيا إياه للمشاركة في وجبة طعام مع بقية الحمير... لم يرفض، شارك البقية دون ان يرى منهم أي اعتراض، شعر مثلهم بعد ان امتلئت معدته حشيشا ومنخاره دخانا، حرك ذيله اسوة بالآخرين هزا على انغام موسيقى لم يسمعها من قبل في حياته، راقت له الحالة، فقام بالدوران حول نفسه، أخذ يقوم بحركات اعجبت بني جنسه، لفتت نظر صاحب المكان أخذ يصفق له، يضحك ويصيح ... هيا ارقص كما تحب، اضرب برجليك الارض يا جحش إنك جميل بل رائع، اسعدته تلك الكلمات أخرج اصواتا تنم عن سعادة، شاركته الحمير الأخرى لا إراديا فماجت مع على نفس الوتيرة.. استغرب الرجل!! ادرك رغم ضياع وخدر عقله أن هذا الجحش يحب الرقص والتحشيش، نهض إليه شاركه الرقص، لم يكن مدركا ان هناك من يتطلع اليه وما يفعل مع الجحش وبقية الحمير، دخلوا فجأة!! شاركوه الاعجاب بالضحك والرقص والتطبيل ايضا الى أن انتهت الاغنية... إنتبه! مستغربا!!! فإذا به يطلق ضحكة عالية كنهيق الحمير قائلا: إنها العادة والحشيش الذي نطفح، لقد وصلني وافد جديد يحب الاستماع للمغنى مع الرقص مثلي، فشاركته ، لذا وكونه خفيف الظل يحمل بباطنه التيه والضياع، لاشك أنه سينضم الى الحاشية، وعليه سنقيم الليلة حفل تعارف... كلكم والحمير مدعوون إليها...
خرج الجميع فرحا يُحَشم نفسه بسهرة دخان مصحوب بطبل ورقص وزمر، سارع الجميع الى الانتهاء من اعمالهم ومتعلاقتهم بغية الحضور لنيل الكم الأكبر من الضياع....
لم يعي الجحش ما سمع، لكنه فرح بما آلت إليه الامور، أخيرا سيكون له ملاذ جديدا بعد ذلك الضياع في طرق ومتاهات غربة بين أزقة وحواري لا يعرف لغة العيش بينها، فقوانينها صارمة لا يمكن خرقها او التلاعب بنقاط ومساحات فراغها، فأنت تعيش كما غيرك يعيش ما لم تتميز عنه في الرقي والابداع الانساني والحيواني، لكن هنا كل شيء مستباح فيه حتى النكاح للمتعة والاتراح مع من تشاء من قوارير الضياع الجديد...
دخل المساء يحمل صاحب الباحة الشيشة هكذا عرف أسمها بعد أن عرف من بقية الحمير التي اصطفت بشكل مختلف تاركة فراغا للضيوف المدعوين، وقبل الموعد كان الصخب قد أخذ بالتزايد، جلس صاحب الدعوة على رأس المكان وقد رص الحجر برأس شيشته والى جانبها الجمرالاحمر... كل في مكانه ينتظر الاحتفال...
وما أن أمتلأت الباحة حتى اغلقت الباب خلفهم، صاح: احبتي اهلا بكم.. وكوني اقيم هذا الحفل ترحيبا بالجحش الذي جاء من أين لا أدري؟ المهم أنه جاء يحمل بداخله رغبة في الخروج عن المألوف، وبما أني ممن يحبون ذلك، وددت ان يكون حفلي هذا بداية التغيير في انماط حياة رام فيها منكم ما رام، وقد عبثت الظلمة تحت ثيابه حتى استُبيح كل ما أمِنَ أنه غير مستباح، لكني اردت اليوم ان تتذوقوا اللذة الحقيقة للحرام، سأقوم بتحصيص ما ترغبون حتى تكون حياتكم كلها حرام وفساد، فالزمن يا حمير ويا شاربي الضياع هو زمنكم، فكم منكم مخر البلدان هربا من ضياع الى ضياع بعناوين مختلفة، رغم أن الضياع صفة المكان الذي تسمونه وطن، فهيا شدوا الاحزمة ستنطلق الآن التوافه بمواقيت أنا اخترتها لكم، لكن عليكم أن تدركوا أن السواد والبرك الآسنة ستكثر، ستتغير معالم من ظلام دامس الى ظلام بأصواتكم التي ستطلقونها شبقا حين تزدوج الرؤى عندكم، فمنكم من يمزق الثياب، منكم من يشبع نفسه لطما على ماض تولى، ومنكم من يستغل الظرف فيخرج أنامله الخفية ليوقع بكم ويسرق ما تظنونه تافها... اتعرفون ماهو؟؟؟
كل الوجوه باردة، همها كومة الحشيش الذي ينتظر الاشتعال، عاد وقال لهم: ألم أقل لكم انكم أناس ترغبون بالمحرم فقط كونه محرم، فبرغم ما بكم من إرث يعظكم إلا أنكم تحبون الفسق والفجور وهذا ما حيرني!! ولا أعرف كيف تكتسبونه؟ أم تراه لعنة عليكم؟
شاهد بعض الامتعاض على وجوه البعض منهم كأنهم أحسوا بالإهانة، فعلق مردفا... لا عليكم سننظر كيف تتقلب هذه الوجوه وتتغير نظرتها؟ فلا تحكموا حتى يتطاير الدخان، سترون أني على صواب، هيا فليبدأ الحفل، ثم كبس على زر آلة المسجل ليصدح بموسيقى الختل الليلية، لحظات حتى تاهت النفوس في جو من الضبابية، تبرثن من خط لنفسه نيل الحصة الأكبر، عهد الى بعض من رافقهم الى خمط أكبر كمية تحت مسمع ونظر صاحب الحفل الذي يشاهد كل شيء دون ان يشعرهم بنواياه، كان الجحش قد شغلته تلك النفوس، تاه الوضوح غشاوه أنفاس وصخب فلم يعد يميز الحمير عن البشر فكلهم حيوانات ترنو للضياع والسبق المحرم، لم يهتم، أنغمس بين الجميع حتى باتت الاجساد عارية تماما من كل ما يسترها فلا حواجز او خطوط حمراء تمنع المحظور فالجميع في عالم آخر، لاشك أنه عالم جديد بالنسبة إليه ويظنه كذلك لهم، رغم البعض قد نال غير ما كان يبطنه في مرامه، فصمت رغم كثرة الاصابع التي تمتد الى جسده بإباحية التحشيش الممنوع، وبين ما هو يتراقص على طبل وزمر شعر بحسحسة تقترب بشكل غير طبيعي، عكس بإنحراف نفسه وجد الوجوه غير الوجوة في الرغبة إليه تكاد تهتك وتطير بنشوة الضياع، اتجهة بنفسه نحو صاحب الحفل، فوجده في عالم آخر تعلو رأسه غيمة من الدخان الأزرق غير الذي يجوب فوق رؤوس ذلك الجمع المترنحة في باحته... فدنا قائلا: لقد بدأ الحضور بالتحسس يرومون شيئا أعلمه نجس، لاشك لحظة غضب ربما أحدهم أو بعضهم أرفس، وقد أخذ الليل بالتعسعس، والجميع يلوط ببعضه دون صوت بهس.. هس ..، ألا تقوم وتردع مثل تلك الأنفس؟
ضحك حتى انتفخ زرقة وقال: يالك من جحش محشش، أن لم يكونوا كما أحسست، فأنا منهم الخيفة أتوجس، وكونهم في ضياع ولواط فيما بينهم تجدني أخرس، مثل غيرهم بعيد عن حوائط اسواري يظن انه يتجسس، يطلق عاريات الكلام دون تأشيرة دخول وهي دسٍ... بدس، كيف تظن أن أكون على ما أنا عليه يا أهبل الجحوش؟ إنا في زمن إن لم تكن وحشا فلا مكان لك بين الوحوش، ومترفي الحياة بالموت لبائعي النعوش بمسميات ظنها البعيد أنها حامية لحقوق الكثير من الحرافيش، الذين ضاعوا بنرد صناع الموبقات شيش بيش.. إن وطننا الجديد هذا أظلم من سابقه وألعن... فإما ان تكون فيه كما يرغب المحصحص مع ليلة حمراء له تخصخص، أو تجوب بين أزقة وطنك وشوارعه بتيه وضياع، بؤس وفقر، تشريد بجوع، لكني اجدك من الذين تنتظر من يمكنه مما أنتم فيه أملا بمخلص، خذ بنصيحتي فما دام هناك من يطبل ويزمر ويرقص، فأنتم له بهز الوسط بما تحملون من قيم هشة، تارة تذم وتارة تصفق، فمنكم من هو حاكم او وزير او برلماني او سفير.. فكلهم شراب الزمهرير، حتى احتار الله فيهم وفيكم فجعلكم جحوشا وحمير، لا عقل لكم، وما نهيقكم هذا إلا أنكر الاصوات فإن أنكر الاصوات مثل صوت هؤلاء المترنحين وصوت الجحوش والحمير، في عالم اللا تغيير.