الارشيف / عالم المرأة / أخبار المرأة

احزان عراقيه

  • 1/2
  • 2/2

صفقت بحدة الباب الخارجي للمنزل لتجلس على الدرج الخشبي تتأمل مساحات ممتدة وبيوتا وادعه، واغصان شجر تئن تحت وطأة ثقل الثلوج ، تحاول استعادة هدوئها واتزانها ، لقد طفح الكيل هذه المره ، حاول ابنها وليد ذي السبعة اعوام التحدث معها عبر النافذه وحثها على العودة الى الداخل خوفا من برودة الطقس ، لكن اشارة واحدة من يدها ودون ان تستدير لجهته جعلته يحجم عن تكرار المحاولة ، ابنتها شهد تبكي في الداخل ، بينما زوجها صالح يردد باعلى صوته : نور ، عودي الى الداخل . مرت دقائق وهي على جلستها لا تبالي بالبرد ، اللون الابيض للثلج المختلط بخضرة الاشجار، وتوقف صالح عن مناداتها ، كل ذلك ساهم في عودة انفاسها المتلاحقة الى معدلها الطبيعي ، اصبحت في الآونة الاخيرة تشكو من اللهاث وتسارع نبضات القلب كلما تعرضت لضغط نفسي وهو امر تحاول ان تخفيه عن اولادها وخاصة شهد، فهي رقيقة لا تحتمل أي هزة نفسيه . بدأت نور تسري عن نفسها بتذكر طفولتها وشبابها في بغداد ،، ففتحت باب الاحزان لتتدفق الذكريات الاليمة كنهر هادر دون توقف ، تذكرت كيف قصم الحصار الاقتصادي الاممي على العراق في التسعينيات ، ظهر عائلتها وظهور آلاف العائلات العراقية التي كانت تعيش سابقا بمداخيل تكفي لصون كرامتها ، تستذكر بأسى كيف اضطرت والدتها الى بيع كل مقتنياتها العزيزة عليها من اجل تأمين وجبات الطعام الضرورية ، والدها كان لا يحسن القيام بأي عمل اضافي بعد تقاعده من الجيش برتبة عميد ويشعر بالحرج لمجرد ان يعرف الجيران والاقارب ضنك العيش الذي وصل اليه ، باع ساعاته الثمينة التي كان يتلقاها كهدايا في المناسبات الوطنيه اثناء خدمته العسكريه ، لا يبرح ثياب النوم طوال النهار ، يجلس على الاريكة يتابع الاخبار ويفكر في طريقة للتكيف مع الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائيه ، في احدى المرات تفاجأت به نور وقد خرج عن طوره وبدأ يحدث نفسه (راتبي التقاعدي ثلاثة آلاف دينار يعني بالضبط ثمن طبق من البيض ، كيف ساعيش ؟) .. مع توالي سنين الحصار باع والدها بعض الاجهزة الكهربائيه التي لديه وبدأ بثلاجة المجمدات الضخمة التي لم يكن يخلو منها منزل عراقي ، ما حاجتنا بها ؟ قال ذلك ردا على استنكار زوجته لقيامه ببيع الثلاجه ، وأردف ( اننا بالكاد نحصل على ما يسد رمقنا يوما بيوم ، لن نجد ما نخزنه بعد اليوم وستبقى هذه الثلاجة خاويه ) ،، بتوالي الايام انكسر شيء ما بداخل نور ، انطفأ احساسها بقيمة الحياة ، وبالكاد استطاعت ان تنهي دراستها الجامعيه من كلية التمريض ، وفي انتظار الحصول على وظيفه تعودت الجلوس امام النافذه ومراقبة جيرانها وهم يبيعون حتى الابواب الداخليه لمنازلهم . عادت مرة واحده الى حاضرها عندما دنت منها جارتها سالي وبيدها فنجاني قهوه ناولت احدهما لنور وجلست بقربها على الدرج ، منذ ان التقتا لاول مرة ، وهما لا تكادان تفترقان، ثمة خيط رفيع غير مرئي يربطهما ، خيط من المشاعر يمكن كل واحدة منهما من الاحساس بصديقتها اذا ما تعرضت لازمة او وقعت في مشكله ، سالي العراقيه المسيحيه ذات الاربعين عاما التي هربت مع زوجها وابنائها في العام 2008 بعد ان تعرض منزلهم في الموصل لاعتداءات مسلحة من قبل عصابات وتنظيمات متطرفة ،كانت نور وعائلتها قد سبقت عائلة سالي بحوالي سنتين في الوصول الى كندا ضمن قوائم طالبي اللجوء الانساني ، التقت بنور في احدى جلسات التعارف التي نظمتها نساء عراقيات بهدف التواصل في الغربة ثم اصبحتا جارتين في الحي الذي تسكنه غالبية عربيه في ضواحي مدينة (ونزر) . مرت اكثر من خمس دقائق وهما صامتان تحتسيان فنجاني القهوه وتحدقان في الثلوج والاشجار ، ثم اخذت سالي زمام المبادره وعلقت : منظر الثلج ينعش روحي ، يذكرني بسنوات قضيتها في اربيل حيث كان يعمل ميشيل زوجي . لم تعلق نور وبقيت تحدق في البعيد ، علقت سالي : هل ما زال صالح يختلق المشاكل ويشكو الغربه ؟ - وهل يملك غير ذلك ، انه على هذه الحال منذ حضورنا الى كندا بعد كل تلك الاعوام ما زال عاجزا عن التأقلم والتكيف مع حياته الجديده . - اصبري ولا تكثري اللوم عليه ، لا تنسي انه حضر الى هنا وهو كهل لذلك يصعب عليه التكيف مع حياة جديده بعكسك انت فما زلت شابه . كلام سالي نكأ جرحا غائرا في قلب نور ذكرها بانها تزوجت من رجل يكبرها باثنين وعشرين عاما ، ارمل ولديه اولاد ، لم يكن امامها من حل في ظل اوضاعها العائليه سوى الزواج من رجل مقتدر نوعا ما ، وبرغم انه كان في الخامسة والاربعين آنذاك ، الا انه كان ما زال محتفظا بوسامته ، واثقا من نفسه ، والى جانب عمله كمهندس انشاءات كان صالح يكتب الشعر والقصص . اما اولاده فقد كانوا شبابا لا يحتاجون رعاية منها كزوجة اب ، وضعت كل هذه المزايا في كفة وحياتها البائسه نتيجة الحصار الاقتصادي وتآكل مدخرات العائلة في كفة اخرى ، ورضيت بقدرها ، وكم كانت فرحتها كبيرة عندما رزقت بابنتها شهد في اوائل عام 2000 ، اما وليد فقد كان في عامه الثاني عندما حضرت الى كندا انه ابن هذه البلاد بامتياز - ما زال صالح يحن للعراق الذي في مخيلته ، عراق الستينيات يوم كان الخير وفيرا والناس يقرأون ويرسمون ويكتبون الشعر ويؤلفون الكتب ويترجمون من الاداب العالميه والحرفيون المهره يخلقون من الاحجار الكريمة تحفا رائعه ، يتذكر كل ذلك وينسى حالة البؤس التي وصل اليها العراق قبل وبعد الغزو الامريكي ، ينسى تآكل مؤسسات الدوله ينسى القاذورات المتراكمة في الشوارع وانهيار الخدمات الصحيه والفقر وغياب الامن ، كل يوم يختلق المشاكل مما يؤثر على نفسية الاولاد ، لقد تركت شهد في الداخل تبكي . - هدئي اعصابك وعودي الى المنزل ، واصبري كما قلت لك . ......... انسحب صالح الى غرفته تاركا شهد تقلب في قنوات التلفزيون ، اشعل سيجارة وجلس الى منضدة قرب النافذة المطلة على الباحه الخلفيه للمنزل وبدأ يكتب في يومياته ( الامور ليست على ما يرام بيني وبين نور ،تجادلني بحده كلما ذكرت امامها موضوع العودة الى العراق ، وتعلق بان غربتي الحقيقة ستبدأ عند العودة الى هناك وتتهمني بانني اعيش في الاوهام والخيالات ، الحياة تضيق خناقها علي كل يوم ،،ابنائي امير وسعد لم يعودا يتصلان بي منذ هاجرا الى السويد ، ووليد الصغير اعجز عن ان اكون له ابا مثاليا بسبب الفجوة العمرية الكبيرة بيننا ، بعد كل تلك السنوات لم استطع التأقلم مع محيطي الجديد ، لا اكاد استقر في مهنة ، ونور تغيب لساعات طويله في عملها بالمستشفى ، ثم هذا الثلج اللعين في الخارج يشعرني ببرودة الموت ، احن الى دفء بغداد في ليالي نيسان ، اتمنى لو يعود بي الزمن ولو للحظة لاجلس مع اصدقائي في المقهى على شاطىء دجله نتدارس في احوالنا وفي اخر الاصدارات ونتسكع امام المكتبات ، المنافي ، ترى هل تسرعت عندما اتخذت قرار الهجرة آه كم اخشى ان اموت هنا في صقيع) .. ............ انقضى الشتاء وحل الربيع بسطوته الساحره في( ونزر) ، تجمعت اعداد من الجالية العراقية في حديقة مطلة على احدى البحيرات حيث الخضرة والازهار والموسيقى والاغاني العراقيه التراثيه تصدح في الاجواء ، الصبايا والشباب يتوزعون على المقاعد المليئة بشتى انواع الطعام والشراب يأكلون ويتضاحكون ، حكايات حب جديده تنشأ في هذه اللحظات ، الاولاد يتراكضون ويلعبون ، يتمشى صالح برفقة ميشيل يتأمل الوجوه ويحاول التعرف على الوافدين الجدد ، يبدو الجميع منسجما مع بعضهم البعض او هكذا بدا ظاهر الحال ، يلفت انتباهه رجل مسن يجلس في ركن منزو حاملا بيده كتابا يقرأ فيه ، يحاول ان يحمل ميشيل على تغيير مساره ليتماشى مع هدفه وهو الوصول بشكل طبيعي وتلقائي الى حيث يجلس الرجل ومحاولة فتح حوار معه ، يشعر صالح فجأة بقشعريرة تسري في بدنه كتلك التي تصاحب الحمى عادة ، مفاصله تألمه منذ الصباح ، بصعوبة استطاع الوصول الى حيث يجلس الرجل ، وبالكاد قرأ عنوان الكتاب الذي يحمله ، انه ديوان شعر ( هجرة الالوان ) لرشدي العامل ،ثم لم يدرك ماذا حصل بعد ذلك ،، عادت حواسه للعمل بشكل جزئي ،، أدرك انه على فراشه في غرفته ، وشاهد نور تضع الكمادات على جبهته في محاولة لتخفيف اثر الحمى ، والاولاد متحلقون حوله ينظرون اليه بقلق ،، كيف تشعر الآن ؟ هل تحسنت؟ اجاب على اسئلة نور - وهو مغمض العينين يرتعش جسمه- بابيات لعدنان الصائغ : وطني حزين اكثر مما يجب واغنياتي جامحة وشرسه سأتمدد على اول رصيف أراه في اوروبا رافعا ساقي امام المارة لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات التي اوصلتني الى هنا ليس ما احمله في جيوبي جواز سفر وانما تاريخ قهر .... في تلك الليله عاد صالح للهذيان من اثر الحمى ، شاهد في احلامه بيته الجميل المكون من طابقين في حي الجهاد ببغداد ، وعاد الى وعيه صوت تلك الطرقات المخيفة على الباب ، الطرقات التي شكلت علامة فارقة في حياته ،،خرج لوحده ليفتح الباب ووجد نفسه وجها لوجه مع قائد ميليشيا طائفيه ذي عينين باردتا النظره بدون مقدمات طلب منه اخلاء المنزل في الصباح والا فسوف يكون مصيره ومصير عائلته الذبح ، ووضع علامة على المنزل ورحل ، رأى صالح نفسه وهو يسابق الزمن لجمع بعض من اغراضهم الثمينة قبل رحلة السفر الى الاردن ومن ثم التقدم بطلب اللجوء ، رفض بشكل قاطع التوجه الى مدينة اخرى داخل العراق واستئجار منزل ، اما ان يعيدوا لي بيتي او ارحل بعيدا ،، عاد صوت زعيم الميليشيا يرن في اذنه ،،ارحل غدا غدا غدا ،،،،الرحيل او الذبح ، هذا المنزل اصبح وقفا لـ،،، استفاقت نور على صوت هذيان وبكاء صالح وبعد نصف ساعه كان في المستشفى ، طلب الطبيب اجراء فحوصات عاجله ، وكانت الصدمة الكبرى لنور عندما اخبرها الطبيب ان صالح مصاب بسرطان الدم وانه في مرحلة متقدمة من المرض بحيث يصعب شفاؤه ،، لا مفر من اخباره بحقيقة مرضه فهذا حقه . اجتمع كل من ميشيل وسالي ونور في الصباح في منزل صالح ، كان الجو مناسبا للحديث بغياب الاولاد في المدرسة ،، بدأ ميشيل بالتمهيد للموضوع ثم التقطت نور دفة الحديث وبدأت تسرد الخبر تدريجيا ، في البداية تجمدت ملامح صالح للحظات ثم استجمع شجاعته وقال ( لا بأس الحمد لله على كل حال ،انني رجل كبير في السن فكم سأعيش بعد الآن فقط يعز علي ان اترك لك تركة ثقيلة،، الولدان سيصبحان امانة في عنقك ،، لدي رجاء ان تعودوا بجثماني الى بغداد ليدفن هناك بجانب قبري ابي وامي ) . سنعمل جهدنا لتحقيق طلبك ،، فاطمئن ، لم تستطع نور ان تضيف اكثر من هذه الجمله فانسحبت باكية الى غرفتها تتبعها سالي . تدهورت صحة صالح بشكل متسارع في الاسابيع التاليه واصبح جو من الحزن والكآبة يسيطر على كل من في المنزل ، واصبح الحديث الاكثر شيوعا هو ترتيبات الجنازه وان كانت هناك طريقة لتحقيق رغبة صالح الاخيره بدفنه في بغداد ،، اصبحت نور لا تفارق صالح ليلا ولا نهارا ، بعد ان اخذت اجازة من عملها ، كان صالح يدرك صعوبة تحقيق رغبته الاخيره ولكنه كان يسري عن نفسه بالوهم ،، في احدى صباحات ايار المشمسه دخلت نور غرفتها وبيدها كأس وماء وبعض المسكنات لتجد صالح راقدا بسلام تعلو محياه مسحة حزن ، لمست وجهه كان باردا كوجه تمثال ، والى جانبه على المنضده ورقة كتب فيها ( عزيزتي ورفيقتي نور ، ما كنت اخشاه قد حصل، حلت نهايتي في المنفى ، وكنت اظن انني ساوفر جسدي سمادا لنخيل بغداد ، ولكن لا بأس ، لن احملك عبء نقل جسدي الى هناك ، فطالما قسوت عليك في حياتي وحملتك فوق طاقتك، والآن يمكنك دفني في أي مقبرة هنا، لقد تشبع جسدي بصقيع المنافي حتى النخاع ، اما روحي فسوف تبقى تسكن في ازقة بغداد وعلى ضفاف دجله والفرات وتعرج كل صباح على المساجد والزوايا والبيوت العتيقة ،، وداعا) ...

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى