كان حراك الشرائح المهمّشة من أبناء العمّال والفلاّحين، من اهمّ عوامل جيشان الشارع في بلدان الربيع العربي، الشعارات المرفوعة كانت تطالب (ولو عن غير وعي) بأنماط جديدة من العدالة والحرية. الشباب المهمّش، والمجموعات المُحبطة أنتجتها منظومة ليبرالية جديدة واقتصاد رأسمالي متوحّش. الأنظمة السياسية الديكتاتورية في بلدان الربيع العربي لم تكن ترتكز فقط، على القوى الرأسمالية المحلية من رجال مال وأعمال، وإنما كانت متواطئة مع قوى النظام العالمي الجديد وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربيّ. وإذا كانت الأسباب المباشرة لقيام الثورات في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا هي الأنظمة الديكتاتورية المتسلّطة التي استعملت القمع السياسي والاجتماعي كأداة لضمان استقرار سلطتها. فإنّ مراكمة فشل مناويل التنمية، ومخطّطات وبرامج لإصلاحات هيكلية التي فرضتها منظّمات المال العالمي (البنك ادولي، وصندوق النقد الدولي)، أنتج مقاومة وحركة احتجاجية ثمرة عقود من ظلم الليبرالية الجديدة لشرائح اجتماعية مفقّرة مهمّشة. شرائح اجتماعية أنتجتها أيديولوجية تحرير السوق، وخوصصة الاقتصاد، وتقليص التزامات القطاع العمومي، وقداسة حقوق الملكية الخاصة. فالليبرالية الجديدة هي مشروع يعتمد على مؤسّسات المال ورجال الأعمال، من اجل تحقيق الربح ومراكمة رأس المال. وقد مثّل النظام التونسي لعقود طويلة النموذج الذي ينفّذ بحذق جميع إملاءات وسياسات المؤسّسات المالية العالمية.
تلقّفت قوى الثورة المضادة، الداخلية والخارجية، الحدث الثوري، وعملت على تحويل وجهة فهم وتفسير الحراك، وجعلت من غياب الديمقراطية السبب الرئيسي لجيشان الشارع، وأقنعت الجميع بأنّ الخلل يكمن في عدم وجود حُكم القانون ودولة المؤسّسات، والحلّ يكون بالتركيز على الانتقال الديمقراطي وكتابة دستور جديد يضمن الحقوق والحريات. كما جعلت من التكنولوجيا الحديثة (الفايسبوك والتويتر) الدافع الرئيسي الذي جعل الشعوب العربية تطالب بالحرية وبتحسين حقوق الإنسان، فالعالم الذي تحوّل، بفضل تكنولوجيا الاتصال، إلى قرية صغيرة أصبح جميع سكّانها ينشدون نفس نموذج الحياة الغربي حيث الديمقراطية والحرية والمساواة. لم نستمع إلى خطاب يجرّم النظام العالمي الجديد، أو يحمّل المسؤولية للإيديولوجيا الليبرالية المبشّرة بنهاية التاريخ والإنسان الآخر (فوكوياما). الأنظمة والحكومات لم يكن يديرها السياسيون فقط، بل كان يسيّرها، من وراء الستار، رجال المال والأعمال وأصحاب المصالح من رؤوس أموال محلية ودُولية. انتشار البؤس والفقر والتهميش لم يكن نتتيجة لسياسة القمع والاستبداد فقط، بل منتوج لبرامج الإصلاحات الهيكلية، والسياسات التنموية التي تعتمد ثنائية النظر وازدواجية الرؤية في التعامل مع الشأن الاقتصادي والاجتماعي. الذي شطر وعي المجتمع إلى نصفين، نصف عصري وحداثي يسكن المراكز ويتمتّع بالرفاهية، ونصف تقليدي مفقّر يسكن الأطراف المهمّشة والمحرومة.
تهدئة المطالب الاجتماعية: التهميش، والفقر، والبطالة، وانعدام العدالة في توزيع الثروة الوطنية-، وتحويل الوجهة عن القضايا الحقيقية التي أطلقت شرارة الحدث الثوري: الرشوة، والمحسوبية، وهشاشة العمل، والفوارق الاقتصادية بين الجهات، والتفاوت في مستوى العيش بين المراكز والأطراف. هذا هو الدور المناط بعهدة القوى المضادة للثورة بيمينها ويسارها. ارتفعت الأصوات الداعية إلى ضرورة الإصلاح السياسي وأهميته، ثمّ وقع التركيز على أولوية القيام بتغييرات في مؤسّسات وأجهزة السلطة. الهدف المبطن استمرار نفس المنظومة الاقتصادية، واستقرار إيديولوجية ليبرالية السوق، وضمان بقاء هيمنة المؤسّسات المالية العالمية.
استعمل الغرب الليبرالي آليات مختلفة من أجل الحفاظ على مصالحه، واحتواء الثورة التي تهدّد استقرار منظومته، التي تعتمد على الإبقاء على أسواق العالم النامي وموارده الطبيعية، إلى جانب الأهمية الجيو-سياسية التي تمثّلها بلدان الربيع العربي في استراتيجيات الهيمنة وصراع القوى. استعمل أولا ورقة المجتمع المدني بتوجيه القضايا وزوايا النظر، إذ قام بتمويل الجمعيات الغير حكومية، وعمل على تأطيرها وتكوين الناشطين فيها من طرف خبراء ومختصّين في تكوين القيادات المستقبلية. وركّز على صناعة إعلام ليبرالي، ينشر قيم المنفعة والفردانية، ويروّج إلى نماذج غربية خارجة على سياقات المجتمع وقضاياه التحررية. استعمل ورقة الإرهاب من أجل ممارسة العنف الرمزي والهيمنة على العقول وخنق كلّ نفس ثوري وتخويف الشباب المتمرّد. فقانون الإرهاب الذي أقرته حكومة الترويكا، تحوّل إلى تأشيرة مرور للبوليس، يسمح بقمع المواطنين واستباحة دماءهم، وقتلهم على المباشر أمام أعين المشاهدين والمارة بدون محاكمات ولا تحقيقات، فقط تحت غطاء مقاومة الإرهاب . ليتحوّل إرهاب الدولة إلى ممارسة مشروعة ومباحة قانونيا وأخلاقيا.
جاءت فكرة الحوار الوطني كتتويج لمسار الثورة المضادة، فالقوى الراعية والمشاركة في الحوار لا يمكن أن تكون خارج السياقات التي رسمتها قوى الهيمنة الداخلية والخارجية. حوار أنتج على أنقاض حكومة شرعية، حكومة تكنوقراط، رئيس حكومة عرف بتوجّهاته الليبرالية، وعلاقاته بمؤسّسات المال العالمية، شكّل حكومة وزراؤها لا يمكن أن يكونوا خارج السياقات المرسومة، خاصة في مجالات السياحة (العلاقات مع اللّوبي اليهودي)، والاقتصاد (الطاقة على وجه الخصوص) والثقافة (خنق كلّ نفس هووي، وتشجيع ثقافة الإغتراب).
لا أرى في غزوة "عنق الجمل" التي قادتها السيدة أمال كربول بالجنوب التونسي، والحفل الشبابي الصاخب الذي أشرف عليه السيد مراد الصقلي وزير الثقافة، برعاية اليهودي الفرنسي جاك لانج. إلاّ انضباطا تكنوقراطيا لتوجّهات سياسية لحكومة ليبرالية خاضعة في أداءها لإكراه الدُولي، غير مبالية بالممكن الإقليمي والمحلّي. هي غزوة في الإتجاه المعاكس لــ"غزوة المنقالة" التي قادها شباب أنصار الشريعة في السنة الفارطة في شارع الحبيب بورقيبة. كلاهما يعبّر على انشطار الوعي داخل المجتمع التونسي، شباب متديّن غاضب يمثّل الأطراف المهمّشة، والمناطق الداخلية المفقّرة، يغزو قلب المركز في تحدّ كبير(غير واعي) لمن قام بتهميشه وتفقيره، ويرفع الأعلام السوداء في أكبر الشوارع التونسية وأكثرها رمزية للدولة الحديثة والمجتمع العصري. وفي المقابل شباب عصري ومرفّه، تقوده وزيرة تكنوقراط ويهودي فرنسي، يغزو كثبان الصحراء ويخترق تقاليد مجتمع محافظ ويرفع شعارات التحديث والعصرنة في مجالات لم تتعوّد على هذه المشاهد المستفزّة والصادمة.
فلا تصبّوا جام غيظكم على السيدة الوزيرة، ولا تحمّلوها أكثر ممّا تطيق، سيرتها الذاتية كامرأة تحمل جنسيتين، وديانتين، وزوج ألماني، وعلاقات لا تُخفيها بالكيان الصهيوني، وحظيت بمباركة يهود تونس، وتصفيق إعلام الثورة المضادة. لا يمكن أن ينتج غير هذا المنوال المشوّه لتنمية سياحية تعتمد نفس المقاربة المزدزجة، في الخطاب والتمشّي، لدولة المُستعمر ووريثاتها الدولة "الوطنية" الأولى والثانية.
ولا تصبّوا جام نقمتكم على الشباب السلفي، الذي انتجته برامج التفقير والتهميش، وحوّلته إلى آلية للترهيب وممارسة العنف. ولكن اللوم يوجّه إلى الباحثين والأكادميين، الذين لم يحاولوا فهم المشهد وتفسيره، ولم يجرؤوا على توجيه إصبع الاتهام نحو مواطن الخلل الحقيقية.