مفاهيم كثيرة في حياتنا تحتاج اليوم لإعادة صياغة أو إعادة شرح ومحاولة التبشير بها مرة أخرى، محاولة الإبلاغ بجوهرها النقي وحقيقتها الماسية البراقة الجميلة، وأيضا بأهميتها. وسط تزاحم وقتنا بالأشغال الروتينية والأشغال الطارئة، ننسى بعض تلك القيم، ننسى بعض تلك المفاهيم الجميلة التي يفترض أن تثري وجودنا وتساعدنا على تخطي الصعوبات والعقبات التي قد تعترض طريقنا. ينتج عن كل هذا التسطيح وكل هذا التجاهل، حالة من الشتات والضياع، أو حالة من الذهول والاستغراب.. الاستغراب كيف يُمارس معنا كل هذه القسوة والجمود في المشاعر، لكننا ننسى أننا نحن أيضاً نمارس هذا السلوك ضد الآخرين. والمعضلة الحقيقة أن ممارستنا لهذه القسوة مع بعض تأتي دون أسف، دون أي ضمير ينبهنا أننا ننحرف عن الحالة الإنسانية الدافئة والمغمورة والتعاطف والتراحم.
في هذا السياق أعطي مثالاً بمشاعر الحب، وهذه المفردة تحديداً واسعة جداً، رغم أنها تضم حرفين من الأبجدية اللغوية العميقة بالمعاني، فأكبر معنى إنساني يؤثر في البشرية كافة، حرفان فقط كفيلان بوصفه وشرحه "حب". أقول أن هذه المشاعر هي أيضاً بدأت تكون شحيحة في القلوب أولاً، ثم في الممارسة ثانياً، ولا غروا، فحياتنا بدأت تكون ميكانيكية أو يغلب عليها الروتين والاعتيادية المقيتة التي تبعث على الذبول والملل.
كثيراً ما نسمع كلمات مجردة من أي قيمة تردد مفردة الحب، وهي أبعد ما تكون عن معناها الحقيقي أو ما تدل عليه. قد تفاجأ بإنسان لا يعرفك لم تجمعك به المجالس ولا المناسبات إلا نزراً يسيراً، يلفحك بمفردات رهيبة من الحب، لكن احذر التصديق أو حتى التفكير، فهذه الكلمات مشاعة وليست خاصة بك، وباتت تستخدم كواجهة إجتماعية لا اكثر ولا أقل.
هناك فئات من المجتمع لا تسمعك كلمات الحب والاهتمام إلا إذا القدر وضع بين يدك حاجة لهم، فأبشر بالرسائل والكلمات، بل والأشعار الجميلة والحكم عن الحب والخلان والوفاء، فضلاً عن الطرائف والقصص المضحكة، لأن الحبيب يريدك مبتهجاً سعيد النفس منشرح الصدر، ومرة اخرى احذر التصديق والانغماس في دور المحب والولهان، ذلك أنه بمجرد أن تنتهي المصلحة أو سحب الحاجة من بين يديك، ستصدم وتفاجأ بهول الكذبة التي تم ممارستها ضدك وضد مشاعرك.
يقول أحد المسؤولين أنه بعد تقاعده شعر أنه لا يعرف أحداً، فمن كان بالأمس يشعره بالاهتمام والرعاية، تنكر لدرجة لم يعد يرد على اتصالاته. أما على صعيد إستخدام الحب بمفهوم العشق، فحدث ولاحرج، فكم عاشق أو عاشقة وجد فيه ضالته في الحصول على مبتغاه وهدفه المادي الرخيص. يقول أحدهم في قصة مضحكة، إنه يعرف نفسه جيداً، فلم يكن وسيماً وأيضاً لم يكن صغيراً في السن، بل إنه أيضاً لم يكن لديه مال وفير وثروة، وبرغم كل هذا شعر في غفلة من الزمن أن حب حياته قد تحقق، وقد وجد ضالته في فتاة تبادله نفس المشاعر تعمل موظفة لديه، يقول إن حبه عذري شريف، لكن هذا جميعه تلاشى فور تغيير مركزه الإداري الذي كان يديره.
برغم كل هذا، يبقى الحب حاجة، وليس ترفاً ونزوة ومصلحة.