بعيدا عن تكرّس قيم الضياع وهيمنة الخيبة والاجتزاء والألم، تقترح حاضرة عنابة التاريخية في دورة ثالثة مشوّقة على صعيد استنطاق الواقع، وتمكين متتبعي مراكحات حواء من التقاطع مع ثيمات الأمل والإشراق والفرح ومشاغبة طلاسم الحيرة والمرارة ومشاكسات العدم، وما يتصل بهموم المرأة وهواجسها الحياتية.
وفي باكورة مهداة إلى اسم فني غيّبه النسيان طويلا، ويتعلق الأمر بالفنانة الجزائرية الراحلة "ياسمينة دوار" فقيدة المسرح الجزائري (1941 – 1977)، سيكون عشاق أب الفنون على موعد مع يومين دراسيين، الأول حول مكانة المرأة في أعمال الراحل الحي عبد القادر علولة (1939 – 1994) وآخر حول مسار الفنانة "ياسمينة الجزائر"، فضلا عن سلسلة ورش تكوينية حول فنون الإخــراج، السينوغرافيا والكوريغرافيا إلى جانب ندوات فكرية وجلسات تحليلية للعروض المقدمة وشهادات حية، بحضور فاعل للديوان الوطني لحقوق المؤلف الذي واكب التظاهرة منذ البداية.
كما ستقوم محافظة المهرجان بسلسلة تكريمات لفارسات الخشبة على منوال: ياسمينــة دواري - داودية خلادي - أمينـة مجـوبي - لينـدة ســلام - ناديــة لعـرينـــي - منى بن سلطـان - رجــاء هواري وآمال حـنـيـفي، فضلا عن الأستاذ بالجلد بـوزيدي. وستتولى تقييم العروض، لجنة تحكيم مؤلّفة من فطومة أوصليحة (رئيسة)، وبعضوية: مصطفى عـيـاد - جمال حمـودة - سليم سوهالي - نجاة طيبـونـي - حميد رماس وناجـم شراد.
الإنتاج الجزائري يهيمن على المنافسة الرسمية
يتضمن برنامــــج المنافسة الرسمية، عرض 10 أعمال كلها جزائرية، ويتعلق الأمر بمسرحيات: "ميموزا الجزائر" لجمال مرير، "خلف الأبواب" لشهيناز نغــواش، "أوراق حياتي" لحبيب مجاهري، "رؤى" لتونس آيت علي، "عودة شكسبير" لمرير علاق، "الرهينة" لنبيلة إبراهيم، "هو وهي" لمحمد إسلام عباس، "العشاء الأخير" لآمال منغاد، "بنت الحومة" لسيد أحمد بلفضال، "الحرائر" لريم تاكوشت، كما سيستمتع الحضور على الهامش ، بعرضي "إنقاذ الفزاعة " و"الكنز المفقود "، مشفوعة بقراءات مسرحية على غرار "أشرعة الحب" عبد الحميد قوري، "حجرة الصبر" مراد سنوسي.
وأكدت الفنانة الجزائرية المخضرمة "سكينة مكيو" المعروفة بـ"صونيا" محافظة المهرجان على حرية المواضيع وسجّلت حضورا مكثفا للمحليين مع غياب الأجانب هذه السنة.
استقطاب الفتيات إلى الخشبات تمّ قبل 7 عقود
أبرز أكاديميون إلى أنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وضعت اللبنات الأولى لتأسيس المسرح النسوي قبل سبعة عقود، حيث استقطبت الفتيات وشجعتهن على المساهمة في التوعية والتحريض على مقاومة الاستدمار الفرنسي للجزائر (1830 – 1962).
ودعا الباحث "رضوان سكلولي" كافة الناشطات المسرحيات إلى كتابة سيرتهن الذاتية لحفظ ذاكرة المسرح النسائي بالجزائر وتلقينه للأجيال، بينما جزمت الدكتورة جميلة مصطفى الزقاي بانتفاء الكتابة النسائية في المجال المسرحي ببلادها، باستثناء الاقتباسات، مشيرة إلى بحوث نقاد اشتغلوا حول الكتابة المسرحية، أنّ نص "دعاء الحمام" للكاتبة الجزائرية المخضرمة زهور ونيسي لا يمكن أبدا اعتباره نصا مسرحيا، بحكم افتقاره إلى مقومات النص المسرحي دراميا وجماليا. وقدّرت زقاي أنّ الخلل يكمن في طريقة التعبير والكتابة عن المرأة وليس للمرأة في المسرح الجزائري، حيث تذهب إلى أنّ ''المرأة المسرحية في الجزائر قدمت صوتها قربانا لأخيها المسرحي، ولكن لم يستطع قط أن يعبر عن المرأة بالطريقة التي أرادتها". وركزت زقاي على الدور المحوري الذي لعبته المرأة في المسرح النضالي إبان الثورة التحريرية لتذكر بإسهامات مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في استقطاب الفتيات الجزائريات وتشجيعهن على المساهمة في التوعية والتحريض على مقاومة الاستعمار ونشر الفكر التحرري.
ولم يهمل دارسون الدور الطلائعي الذي لعبه رواد المسرح الجزائري على غرار محيي الدين بشطارزي و مصطفى كاتب في تشجيع المرأة على اقتحام خشبة المسرح و إسهامات الأحزاب السياسية مثل حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية في تشجيع المرأة على النضال عبر الأوساط الثقافية المتعددة من بينها المسرح .
توقعات بقيمة ثقافية مضافة
يتوقع متابعون أن ينجح مهرجان عنابة في الظفر بمكتسبات بالجملة، سيما مع تحوله إلى قطب نوعي يسمح باستكشاف جيل جديد متفوق من الممثلات اشتغلن على قوالب درامية متعددة من الميلودراما إلى التراجيـ-كوميديا مرروا بالمونودرام، مثلما يساعد المحفل على ربط الجيلين القديم والحالي، في انتظار فتح زوايا أكثر عمقا حول ماهية ومؤدى الفعل الدرامي النسوي ومقاربة إشكاليات اجتماعية أسرية اقتصادية وسياسية كالفقر والجوع والحرمان الثقافي والمعيشي، فضلا عن تعقيدات سيكولوجية عاطفية متداخلة.
بهذا المنظور، يثمّن عبد الناصر خلاّف المتحدث باسم مهرجان عنابة، بلورة العروض المسرحية النسوية لوعي جديد يتجاوز هاجس الرجل ومعادلة الحب، بالتطرق إلى رهانات الأوطان ومصائرها المكبّلة وسط السائد منذ نصف زمن.
ديناميكية جديدة متسارعة
اعتبرت كوكبة من الممثلات والمخرجات والنقاد إنّ المسرح النسوي في الجزائر، في طريقه لاكتساب عمر ثان مغاير لما انتاب حياته الأولى، تبعا لعدة مؤشرات ترشح هذا اللون الركحي لتحقيق طفرة ستبتعث المراكحات الأنثوية في بلد شهد تاريخه الحديث عطاءات عشرات الفنانات الخالدات في لوحات حية تحتفظ بها ذاكرة أب الفنون.
في تصريحات خاصة بــإيلاف، ترى "سكينة مكيو" (صونيا)، أنّ الحراك الحاصل حاليا في بلادها من شأنه منح جرعة نوعية لتشجيع المسرح النسوي، وتلّح صاحبة أكثر من دور لافت في العشريات الثلاث المنقضية، على أنّ إذكاء حضور المرأة يمرّ عبر إيقاف هيمنة الرجل أداء وإنتاجا وإخراجا.
واعتبرت صونيا من موقعها كمحافظة أول مهرجان متخصص في المسرح النسوي، إنّ فرص ابتعاث هذا المسرح كثيرة عبر تعميق الممارسة، تنشيط حركة النقد وتصنيع مساحة للتأصيل، مبرزة حرصها على توسيع رقعة تواجد المرأة داخل الحلقة المسرحية الجزائرية، عبر حث المسارح الجهوية الـ14، على تبني إسهامات نساء الخشبة، وإعطاء بنات حواء فرصتهنّ للارتفاع بالمنظومة المسرحية المحلية.
وفيما ترى الأكاديمية "فاطمة بلفوضيل" صوت المرأة في المسرح حافزًا ليس لثورة تنتهي بتغيير الشعارات، ولكن لتمرّد مستمر يغيّر الإنسان، ذهبت مواطنتها الممثلة "ليندة سلام" إلى حتمية تشريح ما شهدته الجزائر على مدار خمسينيتها الماضية، إذ لا بدّ من مُدارسة رصيد الماضي وما رافق ولادة أولى وُصفت بـ"المتعثرة". بمنظور الممثلة الشابة "ريم تكوشت" فإنّ إنعاش المسرح النسوي مهمة لا ينبغي أن تقتصر على مواطناتها، بل هي مرتبطة أيضا بخوض مواطنيها في القضايا الموصولة بالجنس الناعم، سيما وأنّ نكهة المسرح النسوي تستطيع كسر الرتابة المخيّمة على الركح المحلي.
بدورها، ذهبت الأكاديمية "جميلة زقاي" إلى أنّ المسرح النسوي الحالي يستطيع توفير مقومات الفرجة، بعدما نجحت الجزائريات في حسم جدل قديم بين المثقفين والمتدينين، وتجاوز ظهورها المحتشم في فترات سابقة، وهو معنى يؤيده الناقد "كمال بن ديمراد"، إذ يقول بارتسام المسرح النسوي فعليا متجاوزا شكلانية الموضوع وحواجز المنع.
إلى ذلك، يتفق الناقد "عبد الناصر خلاّف" مع المتخصص "نبيل حاجي" في كون الجزائر لا تمتلك مسرحا نسويا بالمعنى الحقيق، لأنّ الفن الرابع ظلّ ولا يزال نسقا ثقافيا ذكوريا بامتياز خاصة في مجال الصناعة المسرحية، وإمكانية الارتقاء به مقرونة بتأسيس متكامل الجوانب يضمن نجاح وفاعلية هذا الضرب بعد مسار نصف قرن ودورتي الراحلة كلثوم (1916 – 2010) وهي أول جزائرية مشت على البساط الأحمر لمهرجان كان، وكذا مواطنتها الثائرة "وفية بلعربي" (1933 – 1998).