ما دفعني الى كتابة هذا المقال ،، خاطرة كتبتها احدى صديقاتي على صفحتها على الفيسبوك تقول فيها :(النظرة الصامتة المؤنبة تسلبني الفرح اذا فرحت ، تسلبني الطفولة وتنقلني فجأة الى الشيخوخه ، يعود الى ذاكرتي اني تجاوزت الخمسين عاما، انكمش داخل جسدي كما كنت انكمش في المدرسة الابتدائية داخل ثوبي القديم، كنت أخجل في طفولتي من الفقر، وأصبحت أخجل الآن من الشيخوخة، أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس، حين يسألني أحد عن عمري أسكت لحظة، ثم أقول بصوت خافت : خمسين،، تتكرر الحروف في حلقي مثل الغصة،وأكاد اختنق)
اعذرها بعض الشيء على هذه النظرة الحزينة، والاسى على تسرب سنوات العمر من حياتها كما تتسرب حبات الرمل من بين الاصابع ،، ولكن اليست هذه سنة الحياة؟ اليس ذلك قدرا محتوما يسري على الجميع ؟ الكبير والصغير والغني والفقير والحاكم والمحكوم ،، هل رأيتم يوما امرأة مهما بلغت من الجاه والملك استطاعت الاحتفاظ بجمالها وشبابها مهما فعلت ومهما تفننت في استخدام كل ما ينعش خلاياها المتهالكه ، هل تمكن أي رجل مهما بلغ من الثروة والجاه الاحتفاظ بوسامته وشبابه الى الابد ، اظن ان الحل الوحيد لاحتفاظ المرء بشبابه هو ان يموت شابا ، ولا اظن ان احدا منا مستعد ان يدفع هذا الثمن .
ان الشيخوخه سر عجيب ولغز محير، انها حالة لا يمكن حصرها ببشرة مترهله او شعر اشيب او خشونة طرأت على نبرة الصوت ، او خفوت في بريق العيون ، هناك بصمة تدمغ شكل الانسان في كل مرحلة من مراحل ، وهيئة الانسان وشكله الخارجي ما هي الا مجموعة صور متلاحقه .
لماذا نخجل من تقدمنا في العمر؟ ولماذا نحجم عن ذكر اعمارنا امام الملأ ؟ لماذا نشعر بالحرج عندما نتواجد مع مجموعة من الناس سواء في العمل او في الدراسه اوغيرها من المجالات عندما نكتشف اننا اكبرهم سنا ؟
كنت ذات مرة في عيادة طبيب عيون وكان يجلس بقربي رجل مسن مهيب الطلعه حضرت الممرضة لتضع له قطرة في عينيه ولتسجل تفصيلاته الشخصيه قبل دخوله على الطبيب، ومن ضمن الاسئلة سألته عن عمره ، ابتلع ريقه وتردد لثواني ثم أجاب ( اثنان وثمانون عاما) ، دهش الموجودون في صالة الانتظار، فالرجل بدا في الخمسين من العمر فقط ، وهنا يدخل موضوع خوف البعض من الحسد والعين كسبب لعدم ذكر عمرهم على الملأ وهذه وجهة نظر اخرى . والبعض يرى ان السؤال عن العمر لا ينم عن ذوق وتهذيب لانها من خصوصيات الفرد .
لقد تناولت في مقال سابق مزايا التقدم في العمر، وقلت ان ذلك يعطيني فرصة لمراجعة حساباتي وتصويب اخطائي ولكي اعيد بناء ما قد تهدم من علاقتي بربي ، وطول العمر يعطيني فرصة لتحقيق اهداف قد لا تسعفني الظروف بتحقيقها في سنوات الشباب ويحسن من بعض خياراتي ، ويمتعني كذلك بصحبة اهلي واحبتي واصدقائي اطول وقت ممكن .
واليوم اضيف الى ما سبق وقلته ، ان طول العمر او طول مدة بقائنا على هذه الارض سيجعلنا نتلذذ اكثر بحياتنا الحقيقيه، الحياة الاخرى في الجنه بإذن الله ، فقد اصبحت على قناعة باننا سنحمل معنا ذكرياتنا الدنيوية الى هناك ، فكلما زادت فترة بقائي على الارض تشوقت اكثر الى الجنة والتمتع بها ولن تكون حالي كحال من قطع بضع سنين في صدر الشباب ثم جاء اجله ، هذا اجتهادي الشخصي خرجت به بعد عدة قراءات لاحاديث نبويه وآيات قرآنيه ، ففي حديث لا ادري تصنيفه بالنسبة الى العلماء سأل احد الصحابه النبي (ص) من افضل الناس ؟ اجاب من طال عمره وحسن عمله . وفي سورة البقرة ما يدل على ان اهل الجنة سوف يتمتعون بما يقدم لهم من طعام وشراب ويشبهونه بما طعموه وشربوه في الدنيا، قال تعالى ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل واتوا به متشابها ) وكذلك يصور القران جلوس اهل الجنة على سرر متقابلين وتحت ظلال الاشجار الوارفة يستذكرون احوالهم في الدنيا ويتذكرون اصحابا لهم رافقوهم في حياتهم ويسألون عن مصائرهم ، وفي سورة الصافات تصوير لهذا المعنى قال تعالى ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، قال قائل منهم اني كان لي قرين ، يقول انك لمن المصدقين ، ائذا متنا وكنا ترابا وعظاما ائنا لمدينون، قال هل انتم مطلعون ، فاطلع فرآه في سواء الجحيم ، قال تالله ان كدت لتردين ) . استخلص مما سبق ان طول العمر في الدنيا يخلق بعدا جديدا وبهجة تضاف الى مباهج الجنة ، مثلما قد يكون طول العمر لغير المؤمن وللمجاهر بالمعاصي سببا في زيادة بؤسه اذا مات قبل التوبه ، ففي سورة (ص) يصور القران اكابر المجرمين من اهل النار قضوا دهرا في الكفر والعناد وهم يبحثون عمن كانوا يستضعفونهم ويزدرونهم في الدنيا ويصفونهم بالاشرار فيقولون ( وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار ، اتخذناهم سخريا ام زاغت عنهم الابصار، ان ذلك لحق تخاصم اهل النار) . ان هذا المجرم الكافر الذي عاش زمنا طويلا ، حمل معه ذكرياته الارضيه الى حيث مقره في حفر جهنم فتصوروا مدى العذاب النفسي لهذا المجرم الى جانب العذاب الحسي عندما يشاهد من كان يستضعفه من المؤمنين في الدنيا ، ويضربه ويهتك عرضه ويستولي على ماله ، ويسجنه في قفص ويتهمه بالارهاب ويلصق به كافة المثالب ، يراه يتقلب في نعيم الجنة وتحت ظلال اشجارها وهو في ناره يتلقى الذل والعذاب والهوان .
وبعد اقول لصديقتي التي ذكرتها في بداية المقال ، ان اعوامك الخمسين ينبغي ان تكون مبعث فخر لك ، فقد شاءت الاقدار ان لا تتزوجي وتنجبي فكان عطاءك بلا حدود لكل من حولك ، وقد سخرتك العناية الالهيه لتكوني ملاذا لاهلك واقاربك في كل المناسبات السارة منها والحزينة ، لا يشغلك عن نجدتهم زوج ولا ولد فكنت اختا واما وخالة وصديقة لاعداد كبيرة من اقاربك واصدقائك ومعارفك ، اعطيت بلا حدود فطوبى لعمرك المديد الممتلىء عطاءا وتفانيا واخلاصا ، اليس لمثل هذا العمل النبيل خلقنا على هذه الارض ؟ وفي الجنة عندما نلتقي باذن الله وبرحمته ستكون حياتك هناك مفعمة بالذكريات الممتلئة عطاء.