الواقع الاجتماعي بتمثّلاته وتصوّراته التي ترسّخت عبر العصور، لا يسمح للمرأة العربية عموما إلاّ بهامش ضئيل من المشاركة في الشأن العام، وخاصة مشاركتها في الحياة السياسية، وبالتحديد في مواقع صناعة القرار. المجتمع العربي بطريكي البنية، وظيفة الأنثى داخله تأكيد تفوّق الذكر وتثبيت هيمنته. الأنثى بدورها تستبطن الهيمنة وتعمل على ترسيخها والدفاع عنها. المرأة بسلوكها اليومي، وخضوعها الغير واعي، وقبولها بالأدوار الثانوية في مؤسّسات صناعة القرار، سواء داخل الأحزاب أو داخل مؤسّسات الدولة، تبتلع التهميش، وتجعل من العنف الناعم تمييزا إيجابيا ومكاسب حقيقية. منذ دولة "الاستقلال" تردّد النخب "العصرية"، التي انتجتها ثنائيّات دولة المُستعمِر، خطابا "تحديثيا" في ظاهره يؤكّد على حقّ المرأة في الحرية والمساواة، ويستميت من أجل الدفاع على تقنين حقوق النساء الشخصية منها والمدنية. وفي باطنه يعمّق الهيمنة الذكورية ويجعل من المرأة تلك القاصر التي لا حول لها ولا قوّة، والذكور بديمقراطيتهم وتحرّرهم يقنّنون حقوقها ويمنحونها أدوات تحرّرها.
رغم الحديث عن الدور الرئيسي لمجلة الأحوال الشخصية في حصول المرأة التونسية على حقوقها الشخصية والمدنية، يلاحظ الباحثون في شؤون المرأة عدم وجود اختلافات جوهرية في وضع المرأة في أغلب البلدان العربية، خاصة تلك التي خاضت أو لازالت تخوض معارك التحرّر الوطني ضدّ المستعمر: سوريا، لبنان، الأردن، تونس، الجزائر والمغرب وفلسطين. فالقضايا متقاربة والواقع متشابه.
تمثّل المرأة في تونس، حسب الإحصائيات الرسمية، أكثر من نصف السكّان 50,2 % في جويلية 2011، وتمثل نسبة %61 من مجموع الطلبة في الجامعات خلال السنة الجامعية 2010/2011، و تحتل %42 من الإطار الطبي ، و 72%من الصيادلة، و40% من سلك التعليم العالي، و29% من القضاة، و31% من سلك المحاماة و43% من الصحافيين، و44% من اليد العاملة بالقطاع الصناعي، و37% من اليد العاملة في القطاع الفلاحي، وحوالي %45 من اليد العاملة في قطاع الخدمات. كما أن للمرأة دورا في مجال إدارة المؤسسات الخاصة حيث ارتفع عدد النساء رئيسات المؤسسات إلى 18,000 امرأة.
وبنفس لغة الأرقام والمؤشّرات، ولكن في الاتجاه السلبي تمثّل نسبة الأمية 25% لدى الإناث مقابل 11% لدى الذكور، كما تجاوزت نسبة البطالة ربع من هنّ في سنّ العمل في ماي 2012 مقابل 14.6% في صفوف الذّكور، وتبدو الأرقام أكثر ارتفاعا ضمن حاملي الشهادات العليا إذ بلغت نسبة المعطلات عن العمل من بين حاملات الشهادات العليا 40.2% في شهر ماي من سنة 2012 مقابل 15.8% في صفوف نفس الصنف من الذكور.
تمثّل المرأة الريفية 35% من نسبة النساء التونسيات، أكثر من 95% من بينهنّ يعملن في القطاع الفلاحي، سواء بالعمل لصالح الغير في الضيعات الكبرى (جني الزيتون، والغراسات السقوية،..) أو في الفلاحة العائلية في الحقل أو الإسطبل، تشارك المرأة الريفية بشكل كبير في تأمين حاجيات العائلة الغذائية، كما تساهم بنسبة هامة في تامين المنتوج الفلاحي الوطني.
كما تمثّل المرأة الجزء الأكبر من عمّال قطاع الاقتصاد الغير منظّم والعشوائي، 36% حسب دراسة أجرتها منظمة العمل العربية، وبيّنت الدراسة أن أهم المجالات التي تعمل فيها النساء في هذا القطاع هي التنظيف في المنازل والمؤسّسات الخاصة، وبيع الحلوى والمناديل الورقية في محطّات وسائل المواصلات، وبيع الخضر في الأسواق الأسبوعية، وبيع الملابس الجاهزة في الأسواق الغير نظامية. كما تساهم المرأة في الحرف والصناعات التقليدية، كالنسيج والخياطة والطريزة وصناعة الحلويات والمأكولات، وغيرها من المهن التي تقوم بها المرأة في المنزل إلى جانب الأعمال المنزلية اليومية.
وضعت هيئة الأمم المتحدة قضايا "تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين" كهدف ثالث ضمن أهدافها للألفية، واختارت مؤشرات محدّدة لقياس مدى التقدم في تحقيق هذا الهدف، من بينها رفع حصّة النساء من المشاركة في الوظائف الإدارية، وزيادة حصة النساء في البرلمانات ومراكز اتخاذ القرار، وردم الفجوة بين الذكور والإناث في جميع المستويات التعليمية.
يقول الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، بان كي مون، "أنّ المقتضيات الدستورية التي تضمن للعملية التشريعية تحقيقها كافة أركان الشرعية، في جميع دول العالم، تتأسّس على مسألتين رئيسيتين هما، أولا: أن تكون المرأة عضوا شرعيا في العملية التشريعية وعضوا أساسيا في أية عملية من عمليات المساءلة والرقابة البرلمانية، وثانيها: أن تكون التزامات الحكومات حيال تطبيق المواثيق والاتفاقيات الدولية حول حقوق المرأة، من المرجعيات الأكيدة والمعايير الأساسية في عمليات رسم وصوغ السياسات وصناعة القرار في الدول."
في سياقات التأكيد على مبدأ تمكين المرأة، ومؤشّرات التنمية المتعلّقة بالجنوسة، والتصنيفات التي تمنحها منظّمات وهيئات الأمم المتحدة بالاعتماد على نسب مشاركة المرأة في الحياة السياسية، يأتي الفصل 45 من الدستور التونسي الجديد، الذي يؤكّد الحقوق المكتسبة ويقرّ التكافؤ بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليّات في جميع المجالات وتحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة.
هذا الفصل يجعل تونس من أوّل البلدان العربية التي قامت بدسترة مبدأ التناصف بين المرأة والرجل. صفّق لهذا الإنجاز الكثير من زعماء البلدان الأوربية والمنظّمات الحقوقية والحركات النسوية. الأهداف المُعلنة لهذا الفصل من الدستور الجديد هو التأكيد على تقاسم المرأة والرجل على حدّ السواء المجالس المنتخبة لمؤسّسات الدولة، ممّا يجعل المشهد متناصفا بين الذكور والإناث.
لكن هل يكفي تقنين التناصف، ودسترة الحقوق، حتى يتأكّد واقعيا دور المرأة في التغيير، ويتحقّق فعلها في الحراك وفي بناء المستقبل؟ بهذا السؤال لا نحاول على الإطلاق، تقزيم الإنجازات ولا التشكيك في حسن النوايا، وكذلك هو ليس من باب وضع الشروط على مسألة تحرّر المرأة ومشاركتها في الشأن العام. ولكنّ السؤال يستهدف ملامسة الواقع، ومسائلة مفهوم مشاركة المرأة بالمعنى العميق والجوهري، بعيدا عن الخطاب الاستهلاكي، الذي يُخفي عنفا رمزيا وهيمنة ذكورية ناعمة.
القوانين ليست وليدة لحظة، كما أنّها بمفردها لن تحقّق التغيير، ولن تشيع، بمجرّد إقرارها،الديمقراطية والتعددية ولن تجذّر لوحدها التعدّدية والحريات العامة داخل المُجتمع. الديمقراطية مفهوم حياتي شامل، وتراكم لسلسلة من التطوّرات في الوعي الاجتماعي، يتجسّد أولا في أداء مؤسّسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، ثانيا في الجهاز القيمي الذي تعكسه الثقافة وسلوكات الأفراد داخل مؤسّسات المجتمع. الديمقراطية مشروع سياسي، لا يتحقّق بالقوانين المُعلنة ولا بالنوايا الحسنة، وإنّما لابدّ له من:
أوّلا: رافعة تجسّدها عقلانية السلطة، وحُكم دولة القانون والمؤسّسات.
ثانيا: مجتمع مدني قويّ وفاعل، يمثّل الحاضنة للمشروع، و يعكس الوعي الجمعي والقيم المشتركة لأفراد المجتمع.
ثالثا: نخبة وطنية تترجم الوعي وتحوّله إلى إرادة وفاعلية.
المرأة لا (ولم) تخض المعارك الحقيقية من أجل تأصيل موقعها داخل الساحة السياسية، ولم تدفع الثمن الباهض للحرية. رغم إقرار الجميع بالدور الذي لعبته المرأة في الحراك الذي أنتج الربيع العربي، غير أنّ واقع الأرقام والمؤشّرات، أثبت ضمور أداءها السياسي، وضعف مشاركتها في مواقع صناعة القرار. في بلد كتونس وبعد أكثر من نصف القرن من إقرار مجلّة الأحوال الشخصية، اكتفت المرأة بوزارة تهتمّ بشؤون المرأة وأخرى بالبيئة خلال حكومتي الترويكا (ذات الطابع السياسي)، ووزارتين وكتابة دولة في حكومة التكنوقراط (رغم المؤشّرات المذكورة في مقدّمة المقال التي تبيّن تميّز المرأة التونسية والنجاحات التي حقّقتها في المجال العلمي والأكاديمي). أمّا إذا تأمّلنا أغلب الأحزاب السياسية (بيمينها ويسارها) تكاد تغيب المرأة كلّيا عن المؤسّسات المركزية التي ترسم السياسات، نفس الشيء بالنسبة للمركزيات النقابية والاتحادات الطلاّبية. كذلك أغلب المؤتمرات والندوات التي تهتمّ بصناعة الإستراتيجيات وتستشرف المستقبل تغيب عنها المشاركة النسائية بشكل ملفت، رغم كثافة الحضور والاهتمام.
وبالتالي، الحديث عن تحرّر المرأة في المجتمعات "الخاضعة" التي عانت من هيمنة المستعمر وتسلّط الأنظمة الوطنية الديكتاتورية، وتعاني اليوم من ظلم نظام عالمي جديد، وتقسيم اجتماعي غير عادل للعمل. لا يكون إلاّ عبر خوض نضالات حقيقية تدفع المرأة والرجل على حدّ السواء خلالها ثمن الحرية. التغيير يكون نتيجة لتبنّي مقاربة شاملة للتحرّر الوطني التي يخوضها الشعب بذكوره وإناثه، تجزئة القضايا وعزلها عن سياقاتها تحوّل المرأة ذاتها إلى عدو لقضيّتها، وتقوم عبر هذا التضليل بإلقاء استحقاقاتها في هاوية العدمية واللاّصواب.
خلاصة القول: السياق الذي ندافع عنه هو تحرّر اجتماعي شامل، وغوص في عمق البنى الاجتماعية من أجل تفكيك مقولاتها وإعادة صياغتها حسب السياقات الجديدة (الثورة والتأسيس). الوعي بالأدوار والفاعلية في توزيع المهمّات، يعيد للمرأة والرجل على حدّ السواء حقوقهما التي حجبتها منظومة القمع والتهميش. المرأة شريك في عملية التغيير، وليست أداة تستخدم لإظهار مدى ديمقراطية الرجال وتحرّرهم. فالفصل 45 يؤكّد انّ مجتمعا ذكوريا يدّعي منح حقوقا للمرأة، مستخدما المرأة ذاتها كورقة لإثبات ذلك. مجتمع "حداثي" زائف ومضلّل يمنح قيما زائفة ووهمية من اجل الحصول على درجات متميّزة عبر تصنيفات ومؤشّرات أنتجتها مؤسّسات نظام عالمي ليبرالي-جديد، نماذج مُعولمة فرضتها قوى الهيمنة على مجتمعاتنا البائسة والمغتربة عن تراثها وتاريخها.