في مكتب الإعلام التابع للاتحاد الوطني للمرأة التونسية، ثلاث موظفات جلسن أمام حواسيبهنّ يعملن بشكل طبيعيّ في الظاهر، لكن القلوب تحمل معاناة مدة طويلة من الظلم والمماطلات من حكومات متعاقبة على تونس.
كانت وكالة أخبار المرأة قد واكبت الأحداث داخل الاتحاد منذ بدايات الأزمة مع سقوط إدارة خيرة بن لاغة، واستلام المؤتمن القضائي للمنظمة. وصلت الأزمة إلى هذه الصورة المريعة قُبيل انعقاد المؤتمر الاستثنائي الذي أفضى إلى راضية الجربي كرئيسة قانونية.
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، اختارت الوكالة أن تفرد ملفّا خاصا بالاتحاد، لتكريم موظفات وموظفين، خدموا المرأة التونسية على مدى عقود، مازالوا يرزحون تحت ظروف فاسية بسبب الحرمان من الأجور وظروف مادية متدهورة.
من مكتب الإعلام بالاتحاد بدأنا الحكاية، وها نحن اليوم نكمل معهنّ المشوار، بكل ما فيه من تعب ورهَق مادي ونفسي. إيمان رويس، حبيبة بن سالم ووداد عتيق موظّفات المكتب تحدّثن باسم الموظفات والموظفين لوكالة أخبار المرأة، ليطلقن نداء استغاثة جديد في هذا اليوم المخصص لتكريم المرأة، الثامن من آذار/مارس.
"دفع موظفو الاتحاد ضريبة استقلالية منظمتهم باهضا جدا، ممّا جعلهم يمرّون بأزمة مالية خانقة ووضع اجتماعي مزرٍ، دفع بثلاثة موظفين للإقدام على محاولات انتحار، فيما أرغم بعضهم إلى بيع كامل أثاث منزله، وأجبر البعض الآخر على إخراج أبنائهم من الحضانات ورياض الأطفال بسبب عدم قدرتهم على خلاص المعاليم. فيما اضطرّ البعض الآخر إلى الهروب بسبب قيامهم بتجاوزات قانونية جعلتهم مهددين بالسجن، وغادر آخرون منازلهم بالقوة العامة لأنهم عجزوا عن دفع معاليم الكراء. هذا إلى جانب معاناة الموظفين من التتبّعات اليومية من البنوك وإرسال عدول التنفيذ بصفة جماعية."
تواصل الموظفات حديثهن:
"يقولون أن وضعنا استثنائي، لكن الواقع أنه ليس استثنائيا في سير العمل، فنحن مطالبات بالالتزام المهني. حضورنا إجباري، والمساءلات تمسّ أي واحد لا يعمل بشكل منتظم. وهذا رغم أننا لم نتحصل على أجورنا منذ شهور طويلة، مما جعلنا نتداين لنصرف على تنقلنا من بيوتنا إلى مقرّ الاتحاد، ولم نعد قادرين على تسديد ديوننا سواء للبنوك أو للخواصّ"
توقفت التغطية الصحية أيضا، لأن الاتحاد لم يعد لديه القدرة على تغطية ديونه مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولم يدفع عن موظفيه، فصار الذهاب للطبيب معضلة. "صار كل واحد طبيب نفسه، نتفنّن في تفسير الأمراض واختيار الأدوية المناسبة لها مباشرة من الصيدلية".
الترويكا سعت لتركيع الاتحاد
كيف بدأت الأزمة، أو من الذي فجّرها، هو سؤال لم نجد له إجابة واضحة، فالجميع عمل على تدمير صرح تونسي عريق، خدم المرأة منذ بدايات الاستقلال. البعض يتهمه بأنه من الهياكل التي خدمت النظام السياسي السابق بشكل مباشر، وكان الذراع الأيمن لليلى بن علي. والبعض يعتبره مجرّد لعبة في يد الأحزاب الحاكمة السابقة، سواء في عهد بن علي، أو عهد بورقيبة. لكن المأساة اليوم غير مرتبطة سوى بموظّفين، كل تهمتهم أنهم ينتمون إلى الاتحاد الوطني للمرأة التونسية.
في فترة حكم الترويكا للبلاد، عملت كل من حركة النهضة وحزب المؤتمر على تقزيم الاتحاد، إذ "لم تكتف حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالعمل على إقصاء الاتحاد الوطني للمرأة التونسية وتغييبه، وإنما سعت هذه الأحزاب إلى تركيع الاتحاد بكل الأساليب والطرق، ومثّل السطو على مقراته وافتكاك محتوياته شكلا آخر من أشكال ضرب المنظمة. حيث تمّ الاستيلاء على 15 مقرا موزعة على سبع مناطق، للاتحاد فيها وثائق تثبت ملكيّتها أو شهادات حوز، أو وضع على الذمة. وتأتي وزارة المرأة في مقدمة المستولين على هذه المقرات بتجهيزاتها، وأكثر من ذلك تولّت سهام بادي وزيرة المرأة السابقة تحريض الولاة، بأن دعتهم في كتابيا إلى تجميد أجور مكونات مراكز التكوين لمدة أشهر."
بدأت الأزمة تستفحل، فنفّذ الموظفون اعتصاما أوّلا مفتوحا بتاريخ 22 نيسان/أفريل 2013 بمشاركة الموظفين وطنيا وجهويا، واعتصام ثان بتاريخ 17 حزيران/جوان 2013 هذا إلى جانب تنظيمهم للعديد من الوقفات الاحتجاجية المتواصلة والمتكررة على امتداد السنة أمام رئاسة الحكومة ومطالبة المسؤولين بحلّ آني وعاجل لأزمتهم الكارثية.
تتالت جلسات راضية الجربي رئيسة الاتحاد صلب الوزارة الأولى للمطالبة بصرف منحة الاتحاد (القسط الأخير لسنة 2012 وميزانية 2013). لكن حكومة علي العريض قبل تركها الوزارة قرّرت يوم 24 كانون الثاني/جانفي 2014، إثر انعقاد آخر مجلس وزاري في حكومة الترويكا، أن المنحة التي يجب أن تؤول إلى الاتحاد هي نوع من الفساد المالي، رغم أن باقي الاتحادات والجمعيات والمنظمات حصلت على منحها السنوية كاملة حسب الفصل الخاص بالتمويل العمومي للجمعيات، وتمّ تبرير ذلك بعدم استجابة الاتحاد إلى محتوى الأمر الجديد المتعلق بتمويل الجمعيات الصادر في ديسمبر 2013.
"المشكلة أساسا، أن الاتحاد رصد المنحة السنوية لخلاص موظفيه منذ بداية عمله بسبب كثرة عددهم، الكل أخذ المنحة إلاّ نحن.. لماذا نحن بالذات مستهدفون، لا توجد إجابة واضحة، ومازلنا لا نعرف من يحاول استهدافنا"
أسبوع الغضب
يوم 27 كانون الثاني/جانفي2014، بدأ أسبوع الغضب في تاريخ الاتحاد الوطني للمرأة التونسية زمن حكم الترويكا وهو تاريخ الإعلان عن انطلاق إضراب الجوع.
يوم 28 كانون الثاني/جانفي، قام الاتحاد بالتصعيد من خلال دخول راضية الجربي رئيسة الاتحاد في إضراب جوع مفتوح (مع عدد من الموظفين)، تنديدا بالوضع الكارثي الذي تعيشه المنظمة النسائية الوحيدة في تونس، وعلى خلفية تردّي الأوضاع المادية والاجتماعية والنفسية للموظفين والمطالبة بصرف أجورهم من خلال صرف منحة الاتحاد كبقية المنظمات الوطنية.
"تمّ فكّ إضراب الجوع، لأننا وثقنا في الوعود التي جاءنا بها حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، في اليوم الرابع من الإضراب (31 كانون الثاني/جانفي 2014)، لكننا لم ننل سوى مماطلات وتسويفات، ومازلنا نعاني الأمرّين، وهو ما نعتبره إهانة للمرأة التونسية في عيدها"
كان الحسين العباسي وعد باستيفاء مستحقات الاتحاد لسنة 2012، والتفاوض في مستحقات سنة 2013، على اعتبار الأمر الجديد الخاص بتمويل الجمعيات، والذي اعتبره موظفو الاتحاد، مفصّلا على قياس أزمة الاتحاد لتركيعه وتعجيزه، وعدم إيفائه حقوقه. وتقديم مبلغ مالي بقيمة 100 ألف دينار من وزارة الشؤون الاجتماعية.
لم ينل الاتحاد سوى المئة ألف دينار "التي بالكاد غطّت مرتب شهر لكل موظف"، ورغم معاناة الموظفين، بقي الكثير ينبش في جروح الاتحاد، مثل سمير بن عمر من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي انطلق يوم 2 شباط/فيفري 2014 في شنّ حملة على الموقع الاجتماعي الفيسبوك، واعترض على صرف منحة الاتحاد وبالتالي أجور موظفيه ودعا إلى حل الاتحاد الوطني للمرأة التونسية.
مازال الاتحاد، إلى يومنا هذا يفتح بابه لجميع نساء تونس، رغم ما يعانيه من مشاكل مالية، وما آلت إليه حالة موظفاته وموظفيه من أزمات مالية ونفسية، "ومازلنا نحاول أن نفهم من الذي يعبث بأوراق الاتحاد ولا يريده أن يبقى بصورته المهيبة القديمة" تقول إيمان رويس، "ومازلنا نعاني من تبعات السياسة ظالمة لحكومة الترويكا، ومازلنا نسمع وعودا واهية لا وفاء بها حتى اليوم".
أطلق الاتحاد أكثر من نداء استغاثة، لكن الشهور تمرّ والديون تتزايد، لتثقل كاهله وكاهل موظفيه، وحكومة مهدي بن جمعة الجديدة لم تحرّك ساكنا في اتجاه إيجاد حلّ جذري للأزمة.