يُطلق العلم في اللغة ( ع ل م ) على إدراك الشيء على حقيقته ،سواء كان هذا الشيء واضحاً جليّاً أو غامضا خفيّاً ، وهو نقيض الجهل ، والعلم من الصفات الواجبة لله تعالى فهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يعزب عن علمه شيء ، بل يقول تعالى شأنه : (( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما البرِّ والبحـر ، وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حَـبَّـةٍ في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )) سورة الأنعـام\59 . والجذر ( ع ل م ) يفيد الأثر ومنه العلامات : (( وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون )) سورة النحل \16 ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : العلامات معالم الطرق بالنهار أي جعل للطريق علامات يقصدها المسافر ، وقال غيره هي الجبال أشهر معالم الأرض على الاطلاق . وهو الأرجح لأنَّ (ع ل م ) وُضِع أصلا للدلالة على الجبل كونه واضح العيان وبارز ، قال تعالى : ((وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ )) سورة الرحمن \24 ، ومن جدليات هذا الجذر ( ل م ع \ لمع) يقال اللمع واللمَعان إشارة على الوضوح وشــدّة الظهور والشهرة التي تغني عن التعريف ، فلان لامع وألمعي ، أي بارز اجتماعيا أو علميّاً أو .....
وانظر الى الضدّيْـن منهما ، أي ( ع ل م ) وضدها ( ملع) وإلى (ل م ع ) وضدها ( ع م ل ) تجد أن الملع ضد الـ(ع ل م ) مبنى ومعنى ( والملع هو السلخ : ملع الشاة سلخها ) ، و( ل م ع ) ضد ( ع م ل ) ، قال تعالى : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ )) سورة الغاشية\3 أي قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه ، وبالتالي فقد بهت بريقها ولا لمعان لها .
ولنبقَ في فلك الجذر الثلاثي ( ع ل م ) الذي يشير الى الجبل في دلالة وضعه عند العرب ، نلاحظ أن الجبل مكون من الحرف الانفجاري(1) "جيم\ج " ثم الباء وهو أيضاً من الحروف الانفجارية ، ثم اللام ، ولنقارنه من باب الغوص قليلا في علم الدلالة وفقه اللغة وجذورها مع الجذر ( ج م ل ) وهو يشبهه كثيراً ( ج+ م + ل) وباعتبار أن الجذر الأول فيه حرفان انفجاريان (ج + ب ) فهو أكبر من الثاني ذي الحرف الواحد ، بل لدينا أصلا الباء أكبر من الميم فيزيائيا ، وجدنا أن الجبل أكبر من الجمل ، كلاهما واضح بارز ظاهر ومشهور ، لكن وضوح الجبل آكد وأشـد !!!
قال تعالى : (( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) [سورة الأنعام:59] . لا حظ العلم بماهو جليّ ظاهر وبما خفي عن الناس .
أما اليقين : ( ي ق ن ) فقد جاء في اللسان : اليَقِينُ العِلْم وإزاحة الشك وتحقيقُ الأَمر وقد أَيْقَنَ يُوقِنُ إيقاناً فهو مُوقِنٌ ويَقِنَ يَيْقَن يَقَناً فهو يَقنٌ واليَقِين نَقيض الشك ، مثلما أنّ العلم نقيضُ الجهل ، كما قدّمنا آنفاً . تقول عَلِمْتُه يَقيناً وفي التنزيل العزيز : ((وإنَّه لَحَقُّ اليَقِين)) سورة الحاقــة\51 ،أَضاف الحق إلى اليقين وليس هو من إضافة الشيء إلى نفسه لأَن الحق هو غير اليقين إنما هو خالصُه وأَصَحُّه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل وقوله تعالى : ((واعْبُدْ رَبَّك حتى يأْتيك اليَقِينُ ))سورة الحجر\99 ، أَي حتى يأْتيك الموت عند أكثر المفسرين ، ذلك أن الموت أعلى مراتب العلم الكامل والذي ليس بعده شك على الاطلاق ..فاليقين أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت القطعي ، الذي لا لّـبْـسَ فيه وهو لا يتزلزل ولا يزول .
ولليقين مراتب ثلاث كما يقول الأصوليون ، كل واحدة أعلى مما قبلها : أولهاعلم اليقين ، وهو العلم المستفاد من الخبر . ثم عين اليقين ، وهو العلم المدرك بحاسة البصر. ثم حق اليقين ، وهو العلم المُدْرَك بحاسة الذوق وغيرها من الحواس ، أوبالمباشرة (التجربة والاختبار ) . والشيء بالشيء يذكر ، ما وجه الشبه أو الاختلاف بين العلم وبين " الفقه" وبينه وبين " الفهم" فنقول بعون الله تعالى :
الفَهْمُ : معرفتك الشيء بالقلب فَهِمَه فَهْماً وفَهَماً وفَهامة عَلِمَه .(الأخيرة فهامة تروى عن سيبويه ) وفَهِمْت الشيء عَقَلتُه وعرَفْته وفَهَّمْت فلاناً وأَفْهَمْته وتَفَهَّم الكلام فَهِمه شيئاً بعد شيء ورجل فَهِمٌ سريع الفَهْم ويقال فَهْمٌ وفَهَمٌ وأَفْهَمه الأَمرَ وفَهَّمه إياه جعله يَفْهَمُه واسْتَفْهَمه سأَله أن يُفَهِّمَه قال تعالى عن سليمان وداود عليهما السلام : (( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) سورة الانبياء \79 أي ألقى الله استيعاب الحل القضائي في قلبه لما اختصموا اليه فقضى قضاء عادلاً .
الفقـه : قال تعالى )) قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) سورة الانعام \98, وقال أهل اللغة أن الفقه هو الوقوف على غرض المخاطب من خطابه (علمه) وقيل : هو التوصل الى علم غائب بعلم حاضر فهو أخص من العلم ، فلا يُستعمل الا في ادراك بواطن الاشياء ومعناها الداخلي والمسمى عند المفسرين (تأويلها ) قال تعالى : ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ﴾ سورة النساء \ 78 – 79فالآيات تتحدث عن قضية الموت التي كانوا يجهلونها ، ولربما ربطوا بين الموت وأسبابه الظاهرة ، فاقتضى السياق القرآني استعمال الجذر ( ف ق هـ) للدلالة على جهلهم ببواطن الأمور . ومعنى الفقه لغة : هو العلم بالشيء و الفهم ببواطنه وأبعاده الداخلية . و منه دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لابن العباس : " اللهم فقِّهه في الدين , و علِّـمْهُ التأويل " ( رواه البخاري ) . ومع ظهور الدين الاسلامي الحنيف صارت لفظة" فقـه" تطلق خاصة على علم الشريعة ، إذ يعرّفه الأصوليون بأنه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من ادلتها التفصيلية .
ويقولون بأنَّ موضوع الفقه : هو أفعال المكلفين من حيث تكليفهم بتحاصيلها , كالصلاة و الصوم أو تكليفهم بتركها , كالزنا والقتل أو تخييرهم فيها , كالأكل و الشرب . قال تعالى : ((وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )) سورة التوبة \ 122 .
وللفقه رتبة واحدة ، وسُمِّ كذلك لأنه يعتمد على إدراك الأحكام الشرعية من أدلتها المعروفة وهي الكتاب والسنّة والاجماع والقياس وغير ذلك من المصادر الفرعية ، وتحصيله فرض كفاية ، اذا قام به بعض العلماء سقط الإثم عن الأمة ، وإن أهملته الناس استحقُّوا الذمَّ .
وختاماً أرجو التمعّـن في الآيتين الكريمتين التاليتين :
الأولى قوله تعالى شأنه : ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )) سورة الأنعام \97 .
الثانية:((وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) الانعام \ 98 ، ومن الجدير بالذكر أن هناك آية ثالثة هي قوله تعالى بعدهمــا :
(( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) الانعام \ 99 ، لا حظ التصاعد والتناسق والتكامل المبدع : يعلمون – يفقهون – يؤمنـون .
فالأولـى نحتاج فيها للعلم كي ندرك ما ظهر وما خفي من آلاء الله ، والثانية تحتاج لفقه البواطن فقد خصصت الحديث عن إنشاء الناس من نفس واحدة حصراً فاقتضى السياق استخدام ( ف ق هـ ) . أما الثالثة فكان الحديث عن الحب المتراكب والنخل والعنب والزيتون والرمان ، ومراحل نضج كل نوع من هذه الثمرات واختلافها حتى لو سُقيت بماء واحد وزُرِعت في تربةٍ واحدة ، فاقتضى السياق استعمال الجذر ( آ م ن ) ...والخلاصـة :
اختلفت الفواصل فى رؤوس الآيات الكريمة الثلاث؛ لاختلاف المخاطب بها:
• ففى الآية الأولى ذِكْرُ حركة الشمس والقمر والنجوم، والاهتداء بها، وذلك من شأن العلماء؛ فناسب ختم الآية بقوله عز وجل: ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .
• وفى الآية الثانية ذكر إنشاء الخلائق من نفس واحدة، ونقلهم من صلب إلى رحم، ثم إلى حياة وموت .. والنظر فى ذلك كله يحتاج إلى تأمل وتدبر وتفكر عميق فعبِّر عن ذلك بالفقه، وهو الفهم العميق؛ فناسب ختم الآية بقوله عز وجل: ( لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ) .
• أما الآية الثالثة ففيها ذكر نعمة الله على عباده، وسعة أرزاقه وتعدد أنواع الثمار والأقوات، ومن أقرَّ بذلك كله مؤمنًا؛ لذلك ناسب ختم الآية بقوله عز وجل: ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .
وصلى الله على سيدنا محمد – معلم الناس الخير – وآله وصحبه والتابعين .
-------------------------------------------
(1)والحروف الانفجارية تسعة جمعت في عبارة : ( أجد قط بكت + ض ) .