لعل حضور المرأة الفلسطينية ما زال حضورا طموحا، حيث أن الوضع الإشكالي للمرأة كمواطنة فلسطينية، تعيش عيشا غير طبيعي وغير مستقر، عيشا متشظيا مشتتا غريبا، يصعب تناوله لما له من اختلافات مكانية وزمانية، حيث لم تعد المرأة واحدة، بل صارت أكثر من فلسطينية، لكن ظلت فلسطين هي ما تجمع نساء فلسطين أكثر من أي شيء آخر.
فالمرأة في الضفة الغربية لها وضع خاص، فهي تعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، تعيش تحت سيادة السلطة الوطنية التي تقتصر على السكان دون الأرض. وهي في غزة محاصرة ومحكومة من قبل الإسلام السياسي الحمساوي بما يحمل ذلك من دلالات.
والمرأة في القدس تعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، وفي ظل ضم القدس لإسرائيل، فإن للمقدسيين ومنهم المرأة وضعا خاصا مختلفا، فلا هي تحت السيادة الفلسطينية، ولا هي صارت إسرائيلية، فقد ظلت محتمية بهويتها وثقافتها المعنوية، وهي مرتبطة جدا بالمرأة في الضفة الغربية، كون القدس كعاصمة للضفة الغربية وجزءا منها، احتلتا معا عام 1967 .
أما المرأة الفلسطينية في إسرائيل، فلها خصوصيتها المكانية، وواقعها يختلف عن واقع المرأة في الضفة الغربية والقدس وغزة.
والمرأة اللاجئة لها خصوصيتها أيضا.
والمرأة في الشتات كذلك.
الكتابة عن المرأة والأرض في فلسطين، تذكرني على الفور بالنساء في الأرض التي ما زلت أعيش عليها، كما تذكرتي بالنساء الأخريات في أماكن أخرى، بل وأزمان أخرى.
من نساء قريتي في بيت دقو إلى نساء قرى القدس ورام الله حين اتسعت نطاق حركتي ونطاق وخبرة، ثم إلى نساء المدن، فنساء قرويات في الشمال والجنوب من الخليل إلى جنين ، ونساء لاجئات في مخيمات اللجوء، ثم ليتطور الوعي، بالتعرف على نساء فلسطينيات في أرض فلسطين المحتلة عام 1948، مع بدايات فرص تنقلي كطالب في المدرسة حتى الآن، والتعرف على النساء القرويات والمدينيات خارج فلسطين، سواء أقمن في المدن والقرى أو في المخيمات، أو حتى النساء الفلسطينيات خارج الوطن العربي، هناك في المهجر..
كل هؤلاء نساء، وكلهن لهن علاقة بالأرض، لكن السؤال الذي ألح عليّ هو هل أتناول الثابت في هذه العلاقة، أم المتغير؟
وإذا تناولت المتغير، فهل سأتناول العوامل المؤثرة من منظور سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي، حيث أن العلاقة بحد ذاتها لم تجر على نحو منتظم، بل شابها التغير انسجاما مع العصر من جهة، ومؤثراته الحداثوية والتكنولوجية وانتشار التعليم، وعمل المرأة خارج البيت والحقل والمزرعة، ووقوع معظم أراضي فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، منذ 6 عقود، ووقوع البقية الباقية تحت الاحتلال نفسه منذ 4 عقود، حيث بسطت المستوطنات والمعسكرات على الأرض المحتلة عام 1967، ولم تبق منها سوى القليل، حتى هذا القليل ما لبث الاحتلال أن صادر منه ما أراد، -خاتما حتى الآن- تضييعه للأرض بإقامة جدار الفصل العنصري.
من أجل ذلك، وبسبب التغيرات السياسية والاجتماعية والحداثة، فإن المحلل والباحث يجد نفسه أمام حراك مستمر لواقع العلاقة بين الإنسان الفلسطيني والأرض، وبالطبع يتضمن ذلك علاقة المرأة.
نحن بحاجة إلى فحص ثقافتنا ومعلوماتنا عن علاقة الرجل والمرأة معا، ثم علاقتهما مع الأرض، ضمن سياق حضاري وتاريخي.
لم تظل العلاقة على حالها، فبعد أن كانت مثلا نساء قريتي حتى السبعينيات يقمن علاقة قوية بالأرض، في مجال تقاسم الوظيفة مع الرجل ومشاركته مراحل الإنتاج والقطف، فإنهن بعد 3 عقود تغيرن، صحيح أنه بقي جزء قليل من النساء اللواتي حافظن على تقاليدهن، إلا أن الجزء الأكبر، بحكم التعليم مثلا تغيرت العلاقة وخفت فصارت رمزا، بل صارت الفتاة القروية تمارس حياة مدينية، وقد ساعد على ذلك، وجود وفرة مالية جاءت على شكل طفرات اقتصادية بحكم ترك العمل الزراعي والعمل كعمال وبروليتاريا في المصانع والورش والمستوطنات الإسرائيلية.
لقد عايشنا تهشم العلاقة جدا، وللأسف تأثرت الأجيال الجديدة بذلك، بشكل متفاوت، خصوصا على الفتيات، اللواتي حاكين الأمهات.
وأهم أثر سلبي ثقافي اجتماعي في الموضوع، هو أنه بدأت تظهر سلوكيات نسوية تنظر إلى عمل المرأة في الحقل نظرة دونية.
صحيح أن الأرض تتجاوز الحقل والمزارع ، لكن كيف ستستقيم النظرة في ظل الجفاء، والترفع عن التراب؟
وحين بدأت الانتفاضة الأولى، بدأت بعض العودة للأرض من الرجل والمرأة معا، بدافع اقتصادي (ووطني بشكل أقل) فقام القرويون ممن أصبحوا بروليتاريا داخل إسرائيل بتعمير أجزاء من أراضيهم، وإعادة تأهيل ما تركوه من أراض كانت بساتين وارفة الظلال!
لكن بسبب اعتياد الناس على نسق حياة معين، ورفاهية معينة، فلم يستمروا بذات النشاط، وسرعان ما عادت المرأة الى البيت تاركة الحقول، إلا في النطاق الضيق، كالمشاركة بشكل محدود في قطف الثمار.
وحين قامت السلطة الوطنية، ظلت مجالات العمل والإنتاج والمساهمة في تسويق المنتوجات محدودة، فكسدت بضاعة الفلاحين، ولم يستطيعوا بيعها فخسروا المواسم، ولم يحصلوا على وفرة مالية تشجعهم على الاستمرار. في المقابل فتحت السلطة الوطنية الباب على التوظيف، في أجهزة الأمن والوزارات والمؤسسات، وكانت النتيجة هو هروب آخر من الأرض، حيث وفرت الرواتب فرصا للتحسن الاجتماعي أكثر من الأرض، فضربت العلاقة بالتالي بين المرأة والأرض، في سياق ضرب العلاقة العامة والخاصة بين القرويين والأرض!
في الانتفاضة الثانية أيضا، كان هناك بوادر رجوع ما إلى الأرض، شاركت فيه المرأة بدوافع ذاتية وبدوافع عبر نشاطات لجمعيات غير حكومية وجدت بعض التمويل لبرامج تتعلق بالحديقة المنزلية مثلا، لكن ذلك كان محدودا، سرعان ما خف، حيث لم يكن العمل فيه يتم وفق رؤى إستراتيجية.
وخلال مراحل تغير العلاقة مدا وجزرا بين المرأة والأرض، فقد تأثرت العلاقة الثقافية سلبا، فلم نعد نحس أو نسمع بإنتاجيات ثقافية شعبية نسوية عن الأرض.
لكن من المهم أيضا أن نساء قرى الضفة وغزة مثلا، لم تمر بنفس التجربة، كما أن هناك اختلافا وتشابها في التأثر بعوامل التغيير السياسية والاقتصادية، إضافة إلى أن هناك خصوصيات في مدى المشاركة في الأعمال الزراعية، في ذات المحافظة، وبين المحافظات، فليست كل نساء قرى نابلس مثلا تقوم بالحراثة، بل جزء منهن، كذلك ليست كل نساء القدس مثل نساء قرية الجيب اللواتي يقمن بكل عمليات الإنتاج ما عدا الحراثة!
النساء الأخريات، أقمن علاقة مع الأرض، بمفهومها الشامل، من مفهوم الوطن، إلى مفهوم الذاكرة والحنين.
لنساء المدينة، من قرويات ولاجئات، ولنساء فلسطين في الخارج، على اختلافه أدوار مهمة جدا لا ينبغي الانتقاص مها، فقد أقمن علاقة جدلية، دفعت نحو البعد الاقتصادي، وكن أكثر توقا للأرض بحكم الحرمان منها، خصوصا اللاجئات، لكن لم يكن يسمح لهن بحكم مكان الإقامة وعدم التملك، إلا أنهم بحكم الحاجة للعمل، عملن مزارعات بأجر، ونجح في عملهن، خذ مثل نساء مخيم جنين العاملات في مراحل إنتاج الخضار وقطفها في قرى غرب جنين ومنها، قرية برقين اللصيقة بالمخيم.
أما نساء فلسطين عام 1948، فقد مررن بمراحل شبيهة بما مرت بها نساء الضفة وغزة، وقد كان لمصادرة الأراضي أثر في تهشيم العلاقة بين الفلسطينيين السكان الأصليين والأرض، لكن الأمر لم يسر كما اشتهى الاحتلال، فقد واكب يوم الأرض الذي انطلق عام 1967، تمسك القرويين في الجليل والمثلث بأرضهم. وما زال للمرأة الفلسطينية هناك دور وألفة مع الأرض، عملا يدويا، بل هناك من تجاوزن ذلك إلى آفاق نضالية عبر الفن التشكيلي والمسرحي والشعر والأدب..
أما نساء الشتات، فقد بقيت علاقة ما بينهن وبين الأرض والوطن، حسب المرحلة العمرية، وقمن بتوريث ذاكرتهن للأجيال الجديدة، بل قمن بتوريث ونقل الفن الشفاهي من جيل إلى آخر..
وقد كان للتعليم والثقافة أثر في ظهور علاقات جديدة وظفت وسائل العصر، وفنونه للتعبير عن تمسك الفلسطينية بأرضها المغتصبة، وتضامنها مع أختها الفلسطينية التي تئن تحت ضربات الاختلال.
وهكذا ظلت الأرض حاضرة في الوعي النسوي كوعي إنساني ووطني ، فلا يعني التفكير النقدي في هذه العلاقة إنتقاصا من دور المرأة بقدر ما هو تثمينا وتقديرا لها