أن فكرة المجال العام ولدت في قلب الحداثة السياسية حيث أن مفهوم المجال العام يعتبر أحد فروع الفكر الحديث الذي توجه لتأسيس مجتمعات ديمقراطية تقوم على أساس تداول السلطة وحرية الفكر والتعبير والتنظيم. ويمكننا فهم المجال العام كحيز يتم فيه تفعيل المشاركة حيث يعتبر الفضاء الذي يجتمع فيه الأفراد والمجموعات لمناقشة الأمور ذات أهمية بالنسبة لهم، وبالتالي فيمكن اعتباره المساحة الرئيسية التي يتشكل فيها الرأي العام المكون من فصائل وآراء عدة.
بمعنى آخر، من المفترض أن يكون المجال العام مجالا حرا وغير مقصور على فصيل واحد، بل من المفترض أن يكون مكانا للتجمعات البشرية وللمشاركة الجماعية حيث تتساوى حقوق وواجبات المواطنة السياسية والاجتماعية. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن فهم دينامكية المجال العام إلا بفهم مجالين آخرين وهما مجال السلطة العامة والمجال الخاص. فالتحركات في المجال العام تتحكم فيها قوانين الدولة العامة والتي مفترض لها أن تعمل على ضمان أمن وسلامة الأفراد المشاركين فيه دون التدخل في شئونهم الخاصة. ومن ناحية أخرى، يقوم المجال العام على أفراد ومجموعات يتشكل القدر الأكبر من أنماطهم الفكرية وهياكل نظمهم القيمية في مجال آخر متصل وهو المجال الخاص.
فعلى ضوء المفاهيم المتداولة، فالمجال الخاص لا يقع خارج نطاق الدولة ولا خارج حيز إبصارها ولكن تحكمه قوانين صارمة تستمد موادها من مبادئ الشريعة الإسلامية بكل ما تأتى به منظومة التشريعات تلك من تفاوت في الآراء الفقهية التابعة للمذاهب الإسلامية المختلفة. وبالتحديد يتمثل المجال الخاص في مؤسسة الأسرة والعلاقات الزوجية التي تتحكم فيهم قوانين الأحوال الشخصية والتي صارع الكثير من المشرعين والحقوقيين والحقوقيات والنسويات والناشطات عبر السنوات من أجل تغييرها وجعلها أكثر إنصافا للنساء المصريات وأكثر تمكينا لهن كمواطنات يتمتعن بكافة حقوقهن الشخصية والزوجية والدفع باستمرار لوضع قوانين تتبنى فلسفة المساواة واحترام حقوق الإنسان. ولأن المجال الخاص هو المساحة الأولية التي تتكون فيها الأنماط الفكرية والتنشئة الاجتماعية لدى الأفراد والتي تضع إطار لمعاملاتهم وخطابهم في المجال العام، إضافة إلى أنه في أغلب الأحيان، يكون المجال الرئيسي الذي تستمد منه النساء الدعم المعنوي والأسرى والذي يعد عاملا ضخما في تحديد فرصهن للعمل والنشاط خارج نطاق المنزل والأسرة، لاسيما في تحديد فرصهن في المشاركة في العمل السياسي، فيصبح المجال الخاص في هذا الضوء أحد أهم الجوانب التحليلية لفهم خبرات ومعوقات العمل السياسي لدى النساء في مصر. وبالتالي نرى تداخل واضح بين الحيز العام والخاص على صعيد وبين المجال الخاص ومجال السلطة على صعيد أخر، ونجد أن الثلاث مساحات في حالة تفاعل مستمرة مع بعضها البعض ولا يمكن الخوض في عملية تحليلية لوضع المرأة المصرية في المجال العام إلا من خلال فهم خصائص تلك العلاقة الثلاثية.
ولكن الحالة المصرية، مثلها مثل أنظمة سلطوية أخرى، تفرض نظرة أكثر تعقيدا لنظرية المجال العام تلك بحيث تصبح أجهزة الدولة من شيمها الرئيسية التحكم في مساحات تحرك وتفاعل المواطنين والمواطنات والتي يظهر أثرها في المجالات العامة والخاصة سواء. فكما هو واضح في الحالة السياسية المصرية، تتم محاصرة المجال العام ويتم تضييق الخناق عليه. وكانت قد غابت الرغبة السياسية لدى المجموعات الإسلامية المنتخبة في خلق حوارات ومساحات أكثر انفتاحا ومساواة، في تأكيد على أحقية الفصائل السياسية المختلفة في عرض ومناقشة أفكارها وآليات عملها. وبالتالي أصبح المجال العام حكرا لفصيل واحد وتحول مسرحا للصراعات السلطوية بين فئات الشعب المختلفة التوجهات بدلا من كونه مجالا حرا تتشكل فيه النقاشات والأنشطة الفكرية والإيديولوجية المختلفة.
وكما تتم محاصرة المجال العام، نجد أيضا أن قوانين المجال الخاص والتي خاضت من أجلها المجموعات والمنظمات النسوية والنسائية معارك طويلة استطاعت من خلالها تغيير بعض القوانين- والتي سيتم الإشارة إليها في سياق الورقة- أنها كانت تتعرض لهجوم واضح يهدف لتمرير خطابات تزيد من حدة التحكم في فرص المرأة في التعليم والعمل والعيش في بيئة أسرية تتساوى فيها حقوق الزوجة مع الزوج.
ذلك لأن في تحقيق المساواة تلك، تستطعن النساء إيجاد قدر أكبر من الحرية للانخراط في العمل العام كمواطنات لهن حقوق ومسئوليات سياسية تجاه مجتمعاتهن. ولعل أحد أهم المداخل لفهم عملية التفاعل تلك هو من خلال فهم علاقة النساء بالمجال العام لما يتجلى من خلال دراساتها من علاقات تفاعلية بين أنماط ثقافية وتحيزات سياسية وخلافات قانونية كجزء من واقع وحراك سياسي واجتماعي تعيشه نساء هذا الوطن.
المشاركة السياسية
يمكن تعريف مبدأ المشاركة السياسية بالنشاط الذي يقوم به المواطنين والمواطنات بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي سواء كان هذا النشاط فرديا أم جماعيا، منظما أم عفويا. ويتضمن المفهوم قدرة المواطنين على التعبير العلني عن آرائهم ومواقفهم والتأثير في عملية صنع القرار إما من خلال خوض الانتخابات كمرشحات ومرشحين وتكوين النقابات والحركات بمختلف أنواعها أو من خلال انتخاب الأحزاب والأفراد للمجالس التشريعية والمحليات والنقابات وغيرها من الكيانات التمثيلية.
إضافة إلي ذلك، تتبلور المشاركة السياسية حول أنشطة أخرى غير التي تم ذكرها، فأحيانا تعتبر اختيارات الأشخاص في حياتهم العامة والخاصة بمثابة التعبير عن موقف سياسي أو أيديولوجي ويجب اعتبار القدرة على هذا التعبير أيضا كأحد جوانب المشاركة السياسية في المجال العام والتي تتشكل حسب جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة.
تلك العوامل تساعدنا في فهم وتحليل أحد أهم معايير الحياة السياسية وهو مبدأ المواطنة وهو القائم على فكرة المساواة بين أبناء الوطن بمن فيهم من رجال ونساء بغض النظر عن العمر أو النوع أو العرق أو أي اختلافات أخرى. ولكن بسبب تباين الفرص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نجد أن المواطنين ليسوا متساوون بهذا الشكل، بل تفتقد بعض الفئات الموارد الاقتصادية والمعرفية والمقومات الاجتماعية التي تساعدهم على ممارسة حقوقهم كمواطنين متساويين يمارسون اختياراتهم الشخصية والفكرية دون إرهاب أو تخويف، فالفرد لا يستطع المشاركة سياسيا إلا إذا توافرت لديه وسائل حمايته.
وتعتبر العلاقات المتبادلة بين الفرد والدولة وما بين الأفراد وبعضهم البعض في المجالين الخاص والعام أحد المعايير لتحليل مستويات المواطنة والتي يحدد إطارها الدستور والقانون والأعراف الاجتماعية على حد سواء. وانطلاقا من هذا التعريف نجد أن المرأة في مصر تتراجع عن الرجل بشكل واضح فيما يخص حقوقها السياسية المرتبطة بالمجال العام وحقوقها الشخصية في المجال الخاص.
فيبدو وأن الهياكل القانونية لحقوق المواطنة قد وضعت حول نوع مجتمعي واحد ولم تتضمن حقوق تمس واقع المرأة المجتمعي بشكل خاص، فهي هياكل لا تضمن مساواة في الإمكانيات المتوفرة بين الرجال والنساء ولكنها تعبر عن منظومة علاقات اجتماعية وسياسية وجنسية ترى المرأة على هامش الحياة العامة، ونفتقد لأدلة تشير إلى الرغبة في تغيير تلك الرؤية. وربما أصبحت المشاركة النسائية في السياسة أحد أهم معالم الخريطة السياسية في مصر بعد ثورة 25 يناير، وفي تلك المشاركة -التي تمثلت في المظاهرات والانتخابات سواء كناخبات أو مرشحات، وفي العمل الأهلي والتنموي والحزبي والحركات الاجتماعية ومجموعات الضغط- ظهرت بحدة أشكال التفاوت بين المساحات المتوفرة لحرية حركة وتعبير النساء وبين المساحات المتوفرة للرجال أثناء تأديتهم الأنشطة نفسها.
ولفهم واقع النساء المصريات من المشاركة في المجال العام وقدرتهن على ممارسة حقوقهن الكاملة كمواطنات إن تعزيز التنمية يقضي إيلاء الإهتمام على قدم المساواة لإعمال وتعزيز الحقوق جميعها والنظر فيها بصورة عاجلة ، ولا يمكن أن يبرر تعزيز بعض حقوق الإنسان والحريات الأساسية وإحترامها إنكار غيرها من الحقوق لأن إيجاد الظروف لتنمية الشعوب والأفراد إلتزام رئيسي على الدول القيام به ، من خلال وضع سياسات وطنية ملائمة هدفها التحسين المستمر لرفاهية جميع السكان والأفراد على أساس مشاركتهم النشطة والحرة في التنمية والتوزيع العادل للثروات عبر تكريس مبدأ تكافؤ الفرص للجميع في إمكانية الوصول إلى الموارد الأساسية والتعليم والخدمات الصحية والغذاء والإسكان والعمل والتوزيع العادل للدخل .
هذا في المبدأ ولكن وبحسب ما جاء في تقرير مشترك أعده تحالف جمعيات المجتمع المدني في لبنان إلى مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان ، بمناسبة إنعقاد الدورة التاسعة من المراجعة الدورية الشاملة فإن خيارات الحكومة اللبنانية فيما يتعلق بالسياسات الإقتصادية والإجتماعية غير كافية ، خاصة مع بروز تحديات مزمنة كالبطالة والفقر وضعف القطاعات المنتجة وتزايد اللامساواة والتفاوتات الجغرافية وإنعدام الحماية الإجتماعية بحيث تتعدد أسباب ذلك بدءا بما يشهده لبنان من إنعدام الإستقرار الساسي ،وأحداث العنف والحروب المتكررة مع إسرائيل إلى تركيز الحكومة على عملية إعادة الإعمار وسد الحاجات الآنية الأمر الذي يصرف إنتباهها غالبا عن السياسات التنموية الطويلة المدى وإن إعتماد هكذا مقاربة سيساهم عمليا في تقويض عنصري الأمن البشري والرفاه لدى المواطنين وسيسفر عن إنتهاك الحقوق الأساسية للإنسان لأن التفاوتات المناطقية تولد فوارق جسيمة بين المناطق ما يتناقض مع مبدأ العدالة والإنصاف .