ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس حلول آذار ضيفا علينا وهو الذي يحتفي بالنساء ( على رأي صديقتي الاستاذة سحر حمزه ) ، لست بحاجة الى مناسبات آذار الانثوية لتذكرني بنساء ( امهات وزوجات وبنات) تطحن عافيتهن رحى الحاجة وتسلبهن الاعمال الشاقة زهرة شبابهن ، انهن دوما امام ناظري طوال شهور السنه ، كتائب محاربات تغدو وتروح كل صباح سعيا لاطعام انفسهن وعائلاتهن .
(سعاد) المراه الصابرة المكافحة تعمل فراشة في احدى رياض الاطفال لا تكاد ترى زوجها المريض وابناءها الا سويعات قليلة قبل النوم . اشاهدها بجلبابها المعفر بغبار الكفاح تنهي دوامها في الروضة وتتوجه رأسا الى بيوت تقوم على خدمة اصحابها مقابل اجر زهيد ، اصبح من المناظر المألوفة لدي ظهر كل يوم جمعه ، منظر سعاد وهي تنهي عملها في احدى بيوت الحي وتخرج حاملة كيس القمامة لتلقيه في الحاويه ثم تمضي الى حي آخر ولقمة خبز اخرى مغمسة بالتعب والهم ، انها في كل مكان وفي كل الاوقات ، تحت الشمس والمطر ، من بيت الى بيت لا تدري متى ستكف عن الجري وراء الرزق في بلد الغلاء فيه كالزمن لا يتراجع ولا يتوقف ولا يموت .
-- منذ سنوات ، وبينما كنت اتصفح احدى الجرائد ،لفت نظري صورة فتاة في الرابعة عشر من عمرها والخبر يفيد بوفاتها بعد سقوطها من شرفة احدى البنايات بينما كانت تنظف زجاجها ، احسست ان حكايتها مألوفة لدي، وبعد مطالعة تفاصيل الخبر ، قررت ان اخذ الجريدة لصديقتي واسالها ان كانت الفتاة في الصورة هي نفسها( انسام )التي كانت تحضر برفقة والدتها (هدى) الى منزلها لتنظيفه ، وما ان رأت صديقتي الصورة والخبر حتى جلست على اقرب مقعد واجهشت بالبكاء .
انسام التي هوت من شرفة مبنى اضطرتها الحاجة الى تسلقها لتنظيفها، وامها هدى محاربتان في المعركة الازلية بين الخبز والمعدة الخاويه . هدى فقدت ابنها الاكبر (حسام) ذي الستة عشر ربيعا ، عندما صدمته سيارة وهي مشغولة عنه بالخدمة في البيوت ، وفصل زوجها من عمله بسبب تغيبه المتكرر حيث كان يضطر للبقاء بجانب ابنه في المستشفى الذي مات فيه بعد غيبوبة طويله ، كانت هدى دائمة التوسل الى كل من تدخل بيوتهم للخدمة من اجل مساعدتها في ايجاد عمل لزوجها ، حتى اذا حانت الفرصة وقام احدهم بتدبير وظيفة حارس ليلي له ، رفض ببساطه الذهاب لاستلام وظيفته ، استمرأ الجلوس في المنزل ، وقرر ان يدفع بالآخرين للقتال نيابة عنه في معركة الرزق ، انها زوجته هدى وابنته انسام ، هدى تستمر بالعمل وهي حامل ، وحتى بعد ان تلد ، تصحب رضيعها الى حيث تعمل تركض بين غسيل الاطباق وفرك السجاد ومسح الغبار، وبين ارضاع الصغير ، وكثيرا ما كانت انسام تنسى نفسى وهي تعمل فتسرح في مشاهدة برامج الكارتون مع الاطفال ثم سرعان ما تعود لواقعها بعد زجرة من امها لتنهمك في العمل ، كانت هدى تعمل طوال العام وحتى في شهر رمضان قبل الافطار وبعده تستقل الباصات مع انسام ، تدور وتدور على البيوت .
انسام عرفت مصيرها من الصحف ، ولكني لم اعرف ماذا فعل الزمان بهدى ، لربما هوت هي الاخرى في ساحة المعركة ، وربما ما تزال قابضة على زناد الصبر متربصة بلقمة العيش .
--- كانت( مديحه) مدرستي في المرحلة الابتدائية وهي ايضا تمت لي بصلة قرابه ، وعندما كبرت اصبحنا صديقتين برغم الفجوة العمرية الكبيرة بيننا ، كانت دائما تسر لي بهمومها ، تحدثني عن معاناتها بمهنة التعليم في منتصف الخمسينيات حيث نسبة النساء العاملات لم تكن كبيرة ولم يحظين بالدعم وبالخدمات المساندة كما هي الحال الان ، كانت دور الحضانه تعد على اصابع اليد وتكاد تكون معدومة في بعض المحافظات.
فقدت مديحه والدها وهي بعد طفله ولم تسلم هي واخوتها من تدخلات ابناء العمومه في تفاصيل حياتهم ، كانوا دوما يضغطون على والدتها من اجل اجبارها على منعها من العمل كمدرسه ، وعندما تزوجت في سن متأخرة نسبيا وانجبت طفلها الوحيد ، لم تكن حياة مديحه سهلة ابدا ، لم تكن تجد مكانا مناسبا تضع الطفل فيه اثناء غيابها في العمل ، فوالدة زوجها امراة كبيرة في السن لا يمكنها الاعتناء بطفل ، ووالدتها تقيم عند ابنها المتزوج وتشعر مديحه بالاحراج من وضع طفلها عندهم حتى لا تسبب المشاكل لاحد . كانت في كل صباح تستيقظ للذهاب الى العمل وتجهز طفلها وتجلس تبكي وتقول ( يا رب ، باب من سأدق في هذا الصباح لاضع طفلي عنده ) .
بعد ان اصبح ابنها رجلا في اواسط الثلاثينيات من عمره وتزوج ، ما تزال مديحه تحمل همه وهم معيشته وتدعو له للحصول على وظيفه تعيله وزوجته . بينما زوجها يكتفي بالجلوس وقراءة كتب السياسه والتاريخ والدفاع عن معتقداته الثوريه .
فليقف آذار وليرفع قبعته احتراما لكل النساء المحاربات سعاد وهدى ومديحه والآلاف مثلهن في كل اصقاع الارض ، ولانسام ولكل الاطفال الذين غيبتهم شرفات الموت الرحمة والمغفره.