في فيلمه الأول عن مصر «العودة إلى الساحة»، والذي عرض قبل عامين، رافق المخرج التشيخي الأميركي بيتر لوم شخصيات مصرية في الفترة التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من شهر يناير، وسيطرة الجيش المصري على الشارع. فأظهر خيباتها والجدار الأصم الذي اصطدمت به أحلام تلك الشخصيات. كما اجتهد المخرج لكي يغوص في خلفيات المجتمعات التي أتت منها تلك الشخصيات، فارداً مساحات مُهمة للمهمشين من المصريين في لحظات تاريخية بدت فارقة. ومن بين تلك الشخصيات، مصرية شابة ألهمتها بشارات الثورة فغادرت قريتها الصغيرة وتوجهت إلى القاهرة، وبالتحديد إلى ميدان التحرير. حيث ستتقاتل قوى النظام الرسمي الفاشية وسطوة التقاليد الاجتماعية الرجعية على الفتاة لتفقدها توازنها، حتى إن «الميدان» الذي بدا لأسابيع رمزاً لحياة مُختلفة مقبلة، تحوّل وفي غضون أسابيع قليلة أيضاً إلى هوة سحيقة، ستترنح الفتاة على حافتها لأشهر، فيما بدا أنه مقدمة لفترات صعبة للغاية، تثير كثيراً من القلق على مصير تلك الفتاة وحتى على سلامة قواها العقلية.
عالم النساء الخاص
أما في فيلم لوم الجديد «أنا أنا»، (وهو الثاني للمخرج عن مصر وأخرجه مع زمليته الهولندية كورين فان أيخرييت ويعرض حالياً في صالات منتخبة في هولندا) فهناك أربع فتيات على شاكلة فتاة فيلم «العودة إلى الساحة» لجهة إصرارهن على تغيير دفة حياتهن، كما أن همومهن هي نموذج لهموم جيل بأكمله من النساء في مصر. لا ينحصر موضوع الفيلم الجديد بالثورة المصرية، على رغم أن هذه لها بعض الأصداء في الفيلم. لكنه يبدو فيلماً شاعرياً لم يشأ أن يخوض في الثورة وآثارها، مفضلاً البقاء ضمن العالم الخاص لشخصياته النسائية، مبتعداً عن البناء التقليدي الذي تفرضه أحياناً القضايا الاجتماعية الراهنة.
يتماهى الأسلوب الفنيّ للفيلم مع الموضوعة المُقدمة، فيبحث عن مقاربة تشبه ما تبحث عنها شخصياته في حياتها الخاصة والعامة. هن فتيات مصريات ما زلن في بداية طريقهن لاكتشاف مواهبهن الفنية الإبداعية. لا يهتم الفيلم كثيراً بخلفياتهن الاجتماعية، فهو مثلاً يُقدم أسماءهن في العناوين التي تظهر على الشاشة قبل بداية الفيلم، بعدها تتقاطع وتتداخل شهاداتهن، والتي لن تخضع للسرد التصاعدي. يدخل الفيلم في الدوامة التي تشبه السجن لعوالم هؤلاء الفتيات، ويحاول أن يجد طريقه في متاهة أفكارهن المقطوعة وغير المكتملة.
«أنا أنا» التي ترد بإلحاح في عنوان الفيلم، هي همسات شخصيات الفيلم التي تقترب أحياناً من الصرخات أو نوبات البكاء. هذه «الأنا» النسائية، لا تكاد تُسمع وسط ضجيج المدينة والأصوات الذكورية العالية. يفرد الفيلم مساحات مهمة لتسجيل لحظات خاصة من العمليات الإبداعية للفتيات، فيقدم مُحترفهن الفني و «لا شعورهن». إحدى هؤلاء الفتيات هي راقصة فن حديث، تقوم منذ سنوات بتصوير نفسها في أمكنة مختلفة من القاهرة، في بحث عن صورة للذات وسط المدينة العملاقة، وهو البحث الذي يشغل شخصية أخرى من الفيلم، والتي وجدت في الكاميرا الفوتوغرافية، الدرع التي تحميها من خراب ما حولها، على رغم أنها تريد أن تسجل هذا العالم الذي يحيطها، من دون أن تملك تفسيراً واضحاً لهذه الرغبة. هذه الفتاة تصور نفسها أيضاً.
لغة الرمز الفعالة
يحضر الواقع المصري المعاصر بمعضلاته وتعقيده وانسداد أفقه في الفيلم، لكن بإشارات سريعة جاءت في الأساس لاستكمال الصورة التي رغب المخرجان بتقديمها عن شخصياته النسائية. ويستعين الفيلم بلغة رمزية لوصف هذا «الواقع»، فتتكرر في سياقات عدة مشاهد تملك التركيبة نفسها: زحام خانق في أحد ميادين القاهرة، حيث السير متوقف تماماً وسيارات تقف بعشوائية وفي كل الاتجاهات. لا أحد يعرف كيف وصلت الأمور إلى هذا التعقيد. إنها الحياة المتوقفه في البلد وفي يوميات شخصيات الفيلم. يبحث الفيلم أيضاً عن صور غير شائعة من يوميات المدينة الشاسعة، فيصور شجرة صغيرة بين شارعين، بدت وحيدة تماماً بين إسفلت الشوارع، كما يصور طائراً ينقر بقسوة على شباك أحد البيوت القديمة، هارباً – ربما - من غبار المدينة.
مع مثل هذه المشاهد الفنيّة الشاعرية، سيمرّ الفيلم على موضوعات تحاصر المرأة المصرية منذ عقود. فيقدم شهادة ليلية طويلة لفتاة تعمل كمساعدة مخرجة، تضطر بسبب عملها أن تقطع شوارع القاهرة ليلاً، «عندما تتحول المرأة التي تجوب المدينة بعد منتصف الليل ومهما كان شأنها، إلى عاهرة وفريسة، والشوارع إلى غابات تكثر فيها الوحوش»، كما تصف. سيدة أخرى رغبت في فتح موضوع التحرش الجنسي في القاهرة في عربة قطار أنفاق خاصة بالنساء، اصطدمت باعتراضات بعض الراكبات أنفسهن، فلا يجوز للمرأة أن تتناول موضوع التحرش الجنسي وفق إحدى سيدات العربة.
حتى في فيلمه السابق عن مصر، بحث بيتر لوم عما خلف الصور الــشائعة عن المديــنة. لا يحــمل هو، وكغيره من المخرجيين الأجانب الذين أنجزوا أفلاماً عن ثورات العرب الأخيرة، تصورات وقيوداً أخلاقية تُعيق عملهم. لذلك، تتــميز أعمالهم بالحريّة الفنية الكبيرة، وأيضاً في تقديــمها لما يُعد أحياناً مُحرمات اجتماعية لزملائهم العرب.
في اختصار يجمع فيلم «أنا أنا» بين الحســاسية الفنيّة التي تثور على الشكل التقليدي للوثيقة التسجيلية التي تتناول موضوعات اجتـــماعية معاصرة، والقدرة على النقل المُعبر عن الضيق النفسي الآني الذي يقترب من الاختــناق لدى شخــصياته النسائية.