حسناً. حدث ذلك قبل قرابة عشرين سنة، في بريطانيا. كان شاب عربي يجلس في كافتيريا إحدى المستشفيات الجامعية في مدينة "مانشستر"، في سياق دراسة متخصّصة في أحد فروع الطب، لشرب فنجان قهوة. ومرّت لحظة تصادف فيها أنه لم يكن على تلك الطاولة سوى طبيبات بريطانيّات كُنّ يتابعن تخصّصهن الطبي. الأرجح أنهن لاحظن انفرادهن بشخص آتٍ من الشرق الأوسط، وهي منطقة لم تكن سمعتها النسويّة شديدة الإيجابيّة في تسعينات القرن العشرين، ربما على غرار أزمنة كثيرة.
سألنه عن أحوال المرأة العربيّة، فاستفاض في شرح معاناة نساء بلادنا من ذكورية متأصلة وثقافة اجتماعية شديدة التمييز ضدهن. كان ينظر إلى نفسه باعتباره "نسويّاً" و"مناصراً" للمرأة، بل كادت تلك المحادثة أن ترسخ في ذهنه هذه الصورة عن نفسه، لولا أن حدث ما لم يكن في حسبانه.
ففي سياق شكواه على طريقة الفلاح الفصيح المصري في الأدب الفرعوني، خطر له أن عقد مقارنة بين الحضارات، فوقع في شرّ حفرة حفرها لنفسه. إذ أورد للبريطانيات أن نساء العرب لم ينلن حقوقهن بعد، ولسن على غرار البريطانيات اللاتي نلن حقوقهن المتساوية مع الرجل. كانت سقطة ما بعدها. انتفضت البريطانيات بين ساخرة منه ومستنكرة لأقواله. لم يكن أنهن رفضن فكرة أن المرأة العربية تعاني (بل أن معرفتهن نسبياً بأحوالها، ولو عن بُعد، كان حافز النقاش كله)، لكنهن رفضن بشدّة قول هذا العربي "النسوي" بأن البريطانية نالت حقوقها المتساوية مع الرجل البريطاني.
"كيف نكون متساويات معهم، وليس في تاريخ بريطانيا الحديث سوى رئيسة وزراء مفردة، هي مارغريت تاتشر، وياليتها حكمت كامرأة، بل كان ذهنها أقرب إلى الرجال"؟ "أين المساواة في عدد الوزراء والوزيرات، والقضاة والقاضيات، والنواب والنائبات، ومدراء الشركات الكبرى والمديرات، و... و... و..."؟
لوهلة خطر للعربي أن يشيد ببريطانيا، ولو من باب الإشادة بالنساء ونضالهن من أجل حقوقهن المتساوية، لكنه أقلع فوراً عن الفكرة، لأنه أحسّ أنها أصبحت تافهة حيال الحقائق التي تدفقت سيولاً من أفواه زميلاته. ثم جاءته ضربة لم يكن يتوقّعها. "في القسم الذي تتابع اختصاصك فيه، ألم تلاحظ أنه لا يوجد سوى أستاذتي كرسي، مقابل 9 رجال؟ ألم تفكر في السبب في هذا الأمر؟... نحن النساء لا زلن ننهض بالهموم الأساسية للأسرة، بما فيها الحمل والإرضاع والتربية وأعمال المنزل، فيما الرجال ما زالوا بعيدون عنها. لماذا نتحمل وزر الأطفال وحدنا؟ هل نحن نجب لأهالي المريخ، كي يعقد الرحال أيديهم على صدورهم فيما نحن لا نكف عن بذل الجهد في العمل والتعليم والمنزل سويّة"؟
تعلّم هذا المشرقي، دروساً كثيرة في جلسة واحدة. أولاً، صحيح أنه لم يلاحظ التفاوت بين أعداد الاختصاصيين والاختصاصييات، أو ربما لاحظها من دون أن يعطيها تفكيراً كافياً. هذا يعني أن عين المرأة رأت وفكرت في معاناتها، أما عينه فلا زالت ذكورية تنظر إلى ما يتمتع به الرجل من مزايا وكأنه أمر مفروغ منه، وليس شأناً آتياً من على حساب الجنس الآخر.
ثانياً، ليس أفضل من المرأة للدفاع عن المرأة وحقوقها وقضاياها. بالطبع، هناك نساء لم يرتقين بوعيهن إلى مستوى المطالبة بالحقوق، بل أنهن يعشن بعقلية الثقافة الذكورية السائدة، وهناك رجال يمتلكون وعياً نسوياً عالياً. صحيح أيضاً أن المساواة هي شأن النساء والرجال، وهي ليست مسألة بيولوجيا. ولكن، ربما أيضاً أن "لا يعلم الهمّ إلا من يكابده"، بحسب قول شهير. هناك خيط رفيع لكنه شديد المتانة، يأتي من المعايشة اليوميّة والمعاناة اليوميّة للنساء. ثمة رجال استطاعوا تعويض هذا الخيط بالكثير من الوعي، وبالاصغاء المعمّق للمرأة أيضاً، وهم ربما كانوا "قلّة"، لكنهم يثبتون أن قضية المرأة هي مسألة ثقافة ووعي والتزام وحضارة، بمعنى أنها شأن اجتماعي واسع يشمل النساء والرجال.
ثالثاً، كي تنال المرأة حقوقها، يتوجب عليها ألا تتوقف عن المطالبة والنقد ورفع السقف إلى الأعلى، وصولاً إلى العدالة. حتى في بريطانيا، لم تكن النساء في العقد الأخير من القرن الماضي ليتوقفن عن المطالبة بالمزيد من الحريات والحقوق، رغم أنهن كنّ نِلن الكثير منها. وحاضراً، لا زال الأمر كذلك. وما زالت المرأة غرباً تطالب بالحرية والحقوق، بل أنها صارت أشد قوّة في المطالبة، لأن وعيها يرتفع ويرتقي ويتطوّر باستمرار.
إنه عيد الأم. مبروك للنساء أولاً، من القلب. واعتذار عن هذه المناسباتية والشعاراتية التي تملأ فضاءات واسعة عربياً، ما يكفي لجعل القلب ثقيل من مدى ضيق الثقافة العربية المعاصرة، في وقت تتمدّد فيه الثقافة عالميّاً لتلامس آفاقاً لا تكف على التفتح والتتوسّع والتعدّد، بالترافق مع صعود مستمر وآخّاذ للمرأة وقضاياها المتنوّعة.
إنه أيضاً اليوم الأول من الربيع. الربيع حقاً. إذاً، ليكن ربيعاً، بالمرأة وللمرأة، بل لتحرّر الرجل من ذكورية متسلطة. ليكن تحرّراً واسعاً. لا تكون حريّة، إن لم يكن ربيع المرأة أولاً.