في منتصف شهر مارس من عام 2005، كان هو يحتضر في مستشفي شهير، حوله أصدقائه ومحبيه. بعد رحلة نحاج طويلة، ورحلة عذاب أطول. أما أنا فكنت أخطو أولى خطواتي في شارع الصحافة. أبحث عن حلم قديم راودني طويلاً، فدفعت ثمنه من عمري عداً ونقداً.
هو على فراشه الأبيض، يقاوم مرض لعين نهش صدره، فطرحه أرضا مستسلماً للرحيل في هدوء. وأنا في شارع الصحافة أبحث عن فرصة حقيقية للتميز والظهور وإثبات موهبة شهد بها الجميع.
كنت من بين عشاقه الأكثر تميزاً، لأنني وجدت بيني وبينه شبهاً لا يحظى به إلا القليل. أنا ابنة بلده، شرقاوية طيبة مثله، جئت إلى القاهرة بحثاً عن فرصة في شارع الصحافة، مثلما جاء هو من قبلي بسنوات تقارب سنوات عمري؛ بحثا عن فرصة فى شارع الفن.
هو العنيد، وأنا الأكثر عنداً. هو الطيب الوحيد رغم النجومية والأصدقاء، وأنا الطيبة الوحيدة رغم الأهل والأحبة. كنت أشبهه ايضا في كرهه للغة النجليزية، وهو الكره الذي صنع حاجزاً بيني وبينها، وجعلني أفقد العديد من الفرص، مثلما فقد هو فرصة العالمية بسببها.
باختصار أحمد زكي كان بالنسبة لي نموذج حياً للتحدي، أضعه دوماً صوب عيني كلما هاجمني الأحباط او خذلتني الظروف.
لم أكن أتصور يوماً أن ذلك الفتي الأسمر الذي علمني التحدي، ومنحني الأمل سوف يهبني النجاح وهو يحتضر. فأنا أدين له بالفضل الكبير، فبسببه تذوقت طعم أول نجاح حقيقي في حياتي المهنية.
فبينما هو يعلن استسلامه للمرض، وكل زملائي في شارع الصحافة يتسابقون على الفوز بتصريح طبي يرضي فضول عشاقه، او كتابة خبر حول من زاره في فراش مرضه، قررت أنا الذهاب إلى هناك، بعيدا عن مشفاه ومنزله ونجوميته وبريقه . قررت أن استقل السيارة بصحبة مصور زميل لنفتش معاً في صفحات كتاب حياته الأولى، باحثين عن أصدقاء طفولته، وفصل مدرسته، وشارع لعب فيه وهو طفل صغير، وناصية شارع اعتاد أن يقف أمامها مراقبا القطار وهو يمر بحي سكنه، ذاهباً إلى بلد الأحلام.
ذهبت إلى حي الحسينية بمدينة الزقازيق، باحثة عن خيوط لازالت تربط النجم الأسمر بمسقط رأسه، وهناك شاهدت بيت عائلته في شارع مكة المكرمة، الذي بناه أحمد على نفقته الخاصة في عام 2000 لتعيش فيه والدته وابنائها.
وقفت أمام بيت خاله الحاج شعبان، الذي تولى رعايته بعد وفاة أبيه وزواج أمه، منزل لم يغيره الزمن، فلازالت بصمات جدرانه شاهدة على دموع الطفل اليتيم، الذي صرح في أحد حواراته بعد أن صار نجماً شهيراً "في سنوات عمري الأولى أدركت أنني لا اعرف كلمة أب وأم". فتذوقت حينها مرارة يتمه ووحدته.
ودخلت مدرسته "مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية" وجلست على مقعد خشبي في فصل "3/1" قسم برادة معادن، وهو نفس الفصل الذي جلس عليه الصبي أحمد زكي في عام 1964 .
وعرفت من رفيق صباه الذي أصبح ناظر المدرسة أن موهبة أحمد قد فرضت نفسها منذ أن كان عضواً فعالاً في فريق التمثيل بالمدرسة، عرفت منه أنه كان يعشق الوقوف على ناصية شارع المعلمين بعد انتهاء اليوم الدراسي. لم يكن ينتظر مرور بنت الجيران كغيره من ابناء الحي، ولكنه كان ينتظر مرور القطار الذاهب إلى القاهرة، الذي كان في نظره أشبه ببساط الريح الذي سوف يحمله إلى أرض الأحلام.
هو نفس القطار الذي استقله أحمد زكي في عام 1967 بعد تخرجه من المدرسة بشهور ليلتحق بمعهد الفنون المسرحية، سافر وهو لا يملك سوى نقود قليلة وصبر كبير وأحلام أكبر حققها على مدار 40 عاما، سجل خلالها اسمه من نور في قلوب عشاقه، وحفره بتحدي في تاريخ السينما المصرية ليصبح نجمها الأوحد والأنجح.
نجاح وهبني أحمد زكي بعضاً منه وهو يرحل، فلقد كانت سيرة أيامه الأولى التي كتبتها على صفحات جريدة عين بتاريخ 17 مارس 2005 من أهم وأعمق التحقيقات التي افتخر بها. سبق سجل باسمي في شارع الصحافة و نقلته عني كل الجرائد والمجلات المصرية والعربية بمجرد وفاة النجم الأسمر.. ليمنحني شهادة اعتماد أعتز بها وأدين له بالفضل بسببها.
في ذكرى رحيله التاسعة اقرأوا له الفاتحة وتذكروه بمحبة يستحقها ليس لأنه فتى الشاشة العربية الأسمر ولا النمر الأسود. لكن لأنه الانسان الأطيب .. أحمد زكي..