قال الشاعر:
ياابن حرب كسوتني طيلساناً
ملّ من صحبة الزمان وصدّا
فحسبنا نسج العناكب إذ قي
س إلى ضعف طيلسانك سدّا
إن تنسمت فيه ينجرّ جرّاً
أو تبسمت منه ينقدّ قدّا
طال ترداده إلى الرّفو حتى
لو بعثناه وحده لتهدّى
ربما لا نجد وصفاً نسبغه على الحجج الواهية التي يوردها المحتسبون في قضايا المرأة أبلغ من وصفها بطيلسان بن حرب! حيث أضحت هذه الحجج من الوهن بمنزلة بيت العنكبوت، ومن التكرار بحيث ملّتها الأنفس وأبت مواردها العقول، ومهما غفرنا لأصحاب هذه الحجج من موبقات فلا يمكن لنا أن نغفر لهم جريمة فقرهم المدقع في الخيال والابتكار، فليس من المقبول أن يكون الأسلوب الذي يعمدون إليه هو هو، منذ أيام ثورة الكاسيت وما يُسمّى بالشريط الإسلامي إلى أيام ثورة مواقع التواصل الاجتماعي وتقنية النانو! فقد شهدت الأيام الماضية تجمهراً لهؤلاء المحتسبين أمام مبنى وزارة التعليم العالي، مطالبين الوزارة بإلغاء ابتعاث المرأة، وكانت الحجج التي ساقوها هي ذات الحجج التي ساقها من عارض تعليم المرأة في القرن الماضي، حيث لم تخرج عن الموشح المكرور المملول الذي يدور حول عدم جواز إخراج المرأة من بيتها، وأنّ ذلك يفسد أخلاقها ويخل بطبيعة خلقتها، والتأكيد على أن كل ذلك من تدبير أعداء الإسلام الذين يحسدون هذه الدرة المكنونة على النعيم الذي تعيش فيه، ويريدون لها الشقاء في الدنيا والآخرة! هذه العبارات الساذجة وما يشابهها هي خلاصة بيانهم الذي طالبوا فيه بوقف الابتعاث، ولسذاجة هذه الدعاوى وزيفها، ولأنّ الناس فاض بها الكيل ممن دأب على المزايدة على حرصهم على أعراضهم وغيرتهم على محارمهم فقد كان ردهم قاسياً على أصحاب هذه الدعاوى في مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته المختلفة، وذلك ما حدا ببعض المؤيدين لهذه المطالب إلى التراجع عن تأييدها وحذف تغريداتهم وكتاباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كان من أبرز المتحمسين لهذه المطالب في موقع تويتر هو المحتسب الشهير الذي قام قبل سنواتٍ بالاعتراض على تصميم مطار الملك عبدالعزيز في جدة لأنه وعلى حد زعمه يحمل دلالاتٍ جنسية فاضحة!! حيث قام هذا الشخص بالظهور في مقاطع فيديو متعددة في موقع اليوتيوب لبيان نظريته بخصوص تصميم المطار وبعض الرموز المنتشرة الأخرى، وعلى من أراد مشاهدة الفذلكة الساذجة أن يبحث عن هذه المقاطع ويشاهدها، هذا الدافنشي المحتسب قام بوضع مجموعة من التغريدات على حسابه في تويتر، ولأنّ هذه التغريدات تعبّر بدقة شديدة عن عقلية هؤلاء فسنورد بعضها هنا رغم ما فيها من الركاكة والسذاجة والافتراء والتعدي، حيث يقول دافنشي الاحتساب:
«محادثة مع زميل يعمل في لندن قبل ست ساعات يقول: المبتعثات راح يرجعوا بفكر يؤثر على البلد»، «يقول من اللي اشوفه السعوديات صاروا أجرأ من العربيات في البارات والمراقص، بارات روادها خليجيات»، «الغريب أنهم يمشون مع أي واحد جريء! يدور الوناسة»، «يقول: أنا بصراحة لا أنصح أي واحد يتزوج مبتعثة «طبعا هذا رأيه».»، «سألته بدون محرم، قال: يب! المحرم يجلس أسبوع ويرجع…قلت له وأنا غاضب ديا…»، «يقول «عرفت وحده في مقهى واكتشفت أنها تروح مراقص وبارات وسكر» اللهم الطف بأمة الإسلام»، «سألته لعل تلك العائلات من المتساهلين أصلا، قال لا إطلاقا من عائلات معروفة»، «يقول لو أقول لك قصص عن البنات هنا تجن، والآن ما فيه أسهل من…..»
انتهى النقل من حساب هذا الشخص في تويتر.
هذه التغريدات نقلتها كما هي دون تصحيحٍ أو تنقيح، ماعدا حذف كلمتين من التغريدة الأخيرة لأنّ فيهما مساساً بدولتين كريمتين، هذا النقل يهدف إلى بيان العقلية المريضة التي ينطلق منها هؤلاء المزايدون الكاذبون، فنظرتهم للمرأة لا تتجاوز الجسد ولا تبتعد عنه مطلقاً، فهؤلاء لا يملكون من العقل ما يردعهم عن الخطل، ولا من التقوى ما يحجزهم عن الظلم، فليس أهون عليهم من الوقوع في أعراض الناس التي يزعمون الدفاع عنها، يفعلون ذلك حينما يعمّمون في التهمة، ويحكمون بالظن والشبهة، في مجافاة مقصودة لمنهج التخصيص والتثبت والستر، فليس هدفهم صيانة الدرة المكنونة كما يزعمون، ولا المحافظة على مربيات الأجيال كما يتبجحون، بل هدفهم الذي تفضحه أفعالهم وطرائقهم هو إبقاء المرأة ضعيفة جاهلة مسلوبة الخيار وناقصة الأهلية، لتكون طوع بنانهم وأرض خيالاتهم المريضة من المسيار إلى المسفار، فما كان لهؤلاء الحمقى أن ينتقلوا من امرأة إلى أخرى تحت مسميات الزواج المختلفة لولا هذه البيئة الجاهلة التي قاتلوا لوضع المرأة فيها، ثم هم يقاتلون الآن لتبقى حبيسة لها، يفعلون ذلك تحت دعاوى التدين والعفاف والأخلاق، ويسعون إلى ذلك بكل طريقة يهتدون إليها، والحقيقة التي لا يمكن نكرانها أن كثيراً من هؤلاء المدّعين يرسلون بناتهم للابتعاث! ويبحثون عن الشفاعات والواسطات لتحقيق ذلك، ثم يجاهدون لضمان عملٍ لبناتهم ومن يمت لهم بصلة، والأوراق الرسمية تثبت ذلك وتبينه، ولو صدقوا لكانوا أول من يمنع محارمهم من الذهاب إلى بلاد الفرنجة كما يسمونها، ولكنّ الصدق عنهم بعيد.
ولا يزال السؤال الذي يطرحه البسطاء من الناس قائماً، لماذا لا نرى جهود الاحتساب هذه إلا حينما يتعلق الأمر بالمرأة؟ وتحديداً حينما يتعلق بتعليمها أو عملها؟ فنحن لا نرى هذه الجهود حينا يتعلق الأمر بظلم الأرامل والمسنّات ونقص حقوقهن! ولا نراها حينما يتعلق الأمر بتقديم طفلة قاصرٍ إلى رجلٍ هرمٍ تحت مسمّى الزواج! ولم نرَ هذا التجمهر في الاعتراض على عدم تعيين المعلمات البديلات أو خريجات المعاهد المتوسطة- قبل صدور الأمر الملكي الكريم بحل هذه الملفات جميعاً- كل هذه القضايا التي تمس المرأة الكادحة الشريفة ليست من اهتمامهم، فما يعنيهم في حقيقة الأمر هو الإبقاء على حالة التجهيل والاستلاب التي تعيشها المرأة، فهذه السبيل الوحيدة التي تمكنهم من التحكم فيها والسيطرة عليها، وكل ذلك تحت مزاعم الدفاع عنها وصونها، ولا يجب أن نغفل هنا عن دور الفصل المبالغ فيه بين الجنسين في جميع مناحي الحياة في تشكيل هذه النظرة الجسدية الخالصة للمرأة، هذا الفصل الذي يعارض الفطرة السوية ويتصادم مع الطبيعة البشرية ساهم بشكلٍ كبير في تأصيل هذه النظرة للمرأة في مجتمعنا، فلم تعد المرأة تأمن على نفسها من التربص والأذى في أي مكان ترتاده في وطننا، بينما لا تعاني هذا الرعب والتربص في الخارج، كل ذلك ونحن مجتمع الفضيلة والخصوصية والفرقة الناجية!!