قصة : د . علياء الداية
ـ آه، أنت تجيدين القراءة و الكتابة إذن !
و ألتفت إلى اليمين باتجاه المتحدّث. كانت النافذة إلى جواري، و إلى يميني يجلس أحد الرُّكاب، أما المتحدّث فهو رجل واقف في الممرّ متمسك بالقبضة المتدلية من عارضة حافلة النقل الداخلي. رجلٌ يلبس قميصاً مكوياً بعناية له زُرّان أسفل طرفي الياقة. نصف ابتسامة و أخطف نظرة إلى دفتر ملاحظات دروس اليوم الذي كنت أتصفحه. الدفتر، التدريس، المديرة و زميلاتي المدرّسات، مشكلات لا تنتهي و نحن في منتصف الفصل الأول. أرفع رأسي من جديد إلى الرجل الأنيق، مازال ينظر إليّ مبتسماً ! غريب ! هل يعرفني ؟
و يلفت انتباهي رجل آخر جالس أقصى اليمين عند النافذة الأخرى، و يُشير بيده المرفوعة بحركة دائرية متكرّرة إلى جانب رأسه، يُعلمني أن الرجل الأنيق ما هو إلا مخبول.
أعود إلى أوراقي متجاهلة الرجلين معاً. رُكّاب هذا الخط ألِفوا الظواهر الغريبة، أنا الجديدة على هذا الخط و في هذا الوقت من النهار. فقد انتقلنا مؤخراً إلى بيتنا و تغيّرت خطوط المواصلات التي كنا معتادين عليها. سيارة العمل مع زوجي، و أنا أركب الحافلة، و ابنتي تقلُّها حافلة المدرسة، كلنا الآن في الطريق إلى البيت. أنا، زوجي، ابنتي، و بقية الرُكّاب، و الراكب المخبول، إن كان مخبولاً حقاً، إلى أين يمضي ؟
ـ انظري إلى هذا المحل، ذي الواجهة الزرقاء... يخاطبني الرجل الأنيق من جديد. و بينما المحل يغادر نافذة الحافلة، يكمل كلامه :
ـ محل لبيع الحيوانات الأليفة، المنزلية، لا تصدقي، نصفها ليس أليفاً، إنها مجرد خدعة للإيهام. أبسط من السلاحف ؟ إنهم يصطادون جرابيع و يحبسونها في صدفة السلحفاة ! لماذا ؟ كي تصبح أسرع ! يُقنعون الناس أنها سلاحف هجينة، و ها أنذا أقول لك إنها جرابيع !
تتسع عيناي دهشة و أنا أنظر إليه، أفكّر : و أين تذهب حيوانات السلاحف الأصلية ؟ و لكن لا أجرؤ على سؤاله كي لا أُتهم بالجنون ! في هذه الأثناء كان راكب النافذة اليمنى يكرر حركته المحذِّرة الضاحكة بيده و يده الأخرى تقبض على الكرسي أمامه و هو يتخذ طريقه استعداداً للنزول.
و أشعر بحزن مفاجئ عارم، و شفقة على هذا الرجل المخبول المسكين. قبل سنوات انتابني شعور مماثل، كنت أمشي مع زوجي و أنا حامل، و اعترضنا في الحديقة العامة رجل يترنّح، يقفز على قدم واحدة و هو يغني و يُصفّر نشازاً بصوت عالٍ، يكلّم نفسه أو شخصاً متخيلاً. خفت كثيراً، شددت ذراع زوجي، و ملأني الرعب من فكرة أن أرزق بطفل كهذا، و غادرنا الحديقة.
حادثة الحديقة أيقظت في ذاكرتي حوادث نفسية قديمة كانت مطمورة في النسيان. في طفولتي المبكرة سادني اعتقاد بأنني أتخيل أموراً قبل وقوعها، أذكر الآن طيف تلك التوقعات و تَبِعَاتها، و لكن بلا تفاصيل، كما لو أن أحدكم يتذكّر طعم فاكهة تذوّقها مرّة واحدة. ربما كان بعض الحوادث المتوقعة مفرحاً و الآخر محزناً، و لكن الحادثة التي آلمتني مدة طويلة و بقيت محفورة في ذاكرتي هي حادثة القطة القتيلة.
في الثالثة عشرة من عمري، أسير وحدي إلى البيت عائدة من المدرسة القريبة، بعد أن تفرّقت زميلاتي كلّ إلى بيتها، و في منتصف الطريق كانت قطة صغيرة هزيلة تموء و تطل برأسها من تحت إحدى السيارات، فاجتذبتُها إليّ بتقليد مواء القطط، فوجئت بانقيادها تتبعني إلى البيت، أبطئ خطواتي كي تلحق بي. ما زلت أذكر نظرتها و هي تلعق طبق الحليب في حديقة البيت، كانت أمي تقول بأنها قطة شارع و ستعود إليه، أما أنا فأقرأ في عيني القطة مصيراً مشؤوماً : إنها ضعيفة و ستموت في الشارع.
بعد يومين، صباحاً في الطريق ذاته إلى المدرسة، و من بعيدٍ صوتُ صرير عجلات سيارة، إنه رشاد ابن الجيران الذي يتباهى بقيادة سيارة والده، طبعاً يختار الصباح الباكر بعيداً عن الشرطة لأنه لم يبلغ السن القانونية للقيادة... و في منتصف الطريق، في منتصف الشارع، كانت هي، القطة الصغيرة، قطتي، ماتت تحت عجلات سيارة، قتلها رشاد الطائش.
لم أشكُ همّي لأحد، و لا تحدثتُ عن خيالاتي أو توهّماتي بأنني مسؤولة عن موت القطة، ماتت و هي في الطريق إلى حديقتنا. ربما، لو لم أقتدها ذاك اليوم إلى بيتنا لبقيت مشردة و لماتت جوعاً، لا هكذا تحت العجلات.
حافلة النقل الداخلي تسير قدماً، و أنا أعود خلفاً إلى أغوار نفسي.
هذه الحادثة نفّرتني من القطط و السيارات معاً، أصبحت دائمة الحذر عند عبور الشارع، و صرت أتجنّب عيون القطط. إلى أن جاء يوم : وسط حصة الرياضيات، كلّفتني المعلمة بالخروج من المدرسة لشراء منقلة كبيرة من المكتبة المقابلة، و كأي طالب حصل على فرصة، لوّحت للحارس بإشعار الخروج و قفزت أركض خارج الباب و الرصيف و الشارع، عندما سُمع صرير فرامل سيارة توقفت لتوّها، و توقفت أنا. الرجل في السيارة رماني بابتسامة عريضة، و بهدوء أعصاب أشار لي أن أعبر الشارع.
في ذلك اليوم تلاشى لومي لذاتي، و أيقنت أن ما حصل للقطة كان مصادفة، مثل مصادفتي مع السيارة أمام المدرسة، كان السائق متعاطفاً معي، و لكن رشاد لم يرحم قطتي القتيلة !
بعد سنوات، وقع انتباهي في الصفحة الأخيرة من الصحيفة على زاوية بعنوان : هل حصل هذا حقاً ؟ لماذا نتخيل أن أمراً معيناً قد حصل سابقاً، أو أنه سيحصل ؟ و عزا المقال هذه الظواهر إلى حقائق علمية تتعلّق بآلية عمل الدماغ و استقبال الصور المتلاحقة فيه، مقال وجدتُه مملاًّ و غير ذي نفع.
تتوالى المشاهد أمامي من النافذة، أنظر ساهمة، ما هذا ؟ كأني أرى محل بيع الحيوانات الأليفة ذا الواجهة الزرقاء يطل من جديد ! ثوانٍ قليلة و... ماذا أرى ؟ حافلة مدرسة... منقلبة على جانب الطريق ! شجرة مهشّمة ! ابنتي، و المدرسة، تشبه حافلة مدرسة ابنتي. عيناي مفتوحتان باتّساع، الركاب حولي كلّ في شغله كأن المشهد لا يعنيهم بشيء. الرجل الأنيق مبتسم ! هل حدثني حقاً قبل قليل ؟ عن المحل و السلاحف ؟ و أسأل الراكب بجواري :
ـ ألم تر تلك الحافلة ؟
ـ أي حافلة ؟
ـ الآن، على جانب الطريق، الحادث.
ـ أي حادث ! لو كان هناك حادث لتعطّل السير.
ماذا أفعل ؟ هل أستجوب بقية الركاب ؟ كي ينعتوني بالجنون ؟ و نصبح اثنين في هذه الحافلة ؟ هاتفها الجوال لا يجيب، إما مشغولة مع زملائها في زحمة الحافلة، أو الأسوأ، الحادث.
أصمم على النزول في المحطة القادمة فوراً، و تتعلّق عيناي بالباب بانتظار أن يُفتح، فيما الرجل الأنيق تخترق نظراته النافذة إلى بعيد مجهول.