الارشيف / ثقافة و فن

مغامرات عطلة الربيع - الفصل الثالث

 

الفصلُ الثَّالثُ

نحلٌ و عسَل

(1)

لم تعرفْ لِيا سرَّ عدمِ اهتمامِها بالأنترنت عندما عادَت من رحلتِها الفاشلةِ.

و رُغم أنها فتحَت بريدَها الإلكترونيَّ لتتفحَّص الرَّسائلَ التي وصلَتْها، إلا أنها تركَت كلَّ شيءٍ و اتجهَت نحو النَّافذةِ تتأملُ أشجارَ الحديقةِ مُحاولةً أنْ تجدَ فكرةً تحرِّك بها جسدَها و تفيدُ بها الطَّبيعة.

و ربما أحسَّتْ بالفعلِ أنها تقضي نصفَ أوقاتِها جالسةً تلعبُ أو تدردشُ من غيرِ أن تتحرَّكَ، و همسَت بينَها و بين نفسِها:

ـ معها حق يارا... ستَجْمُدُ الدِّماءُ في عروقِنا، و سيملأُ الشَّحمُ أجسادَنا، و تتوقفُ الأفكار في رؤوسنا إنْ بقينا على هذا النَّمَطِ في حياتنا.

و قبل أن تُغلِقَ جهازَ الكومبيوتر، وصلَتْها رسالةٌ من يارا.

فتَحَتْها بسرعةٍ، فإذا بها موجهةٌ إليها و إلى سامي و دانيال.

اجتاحَها قلقٌ من أنْ تكونَ الرِّسالةُ فيها عتَبٌ، لكنها ما لبثت أن قفزَت بفرحٍ بعد أن قرأتْ:

"حين تقررون أن تستقيلوا من كونِكم مجردَ أطفالِ أنترنتْ و تلفاز، تعرفون الطَّريقَ إلى بيتي. على كلِّ حالٍ، قابلْت جَدَّ سامي في طريقي إلى المكتبة و دعاني إلى... لن أقول لكم...".

(2)

 

لمعَت عينا لِيا و سارعَتْ تعانق جَدَّتها التي كانت تُعِدُّ السَّلَطةَ في المطبخِ و هي تقول:

ـ أنا ذاهبةٌ لعند يارا إذ يبدو أن فكرةً جديدةً قد طرأتْ على ذِهنِها.

ابتسمَتِ الجَدَّة قائلةً:

ـ لا يكفي أن تأتيَ يارا بفكرةٍ، بل يجبُ أن تتعاونوا على تنفيذِها إنْ كانت مفيدةً لئلا...

و لم تكمِلِ الجَدَّةُ جملتَها التي تعرفُ لِيا أنها تتعلَّقُ بفشلِ رحلةِ السَّير على الأقدامِ.

ركضَتْ نحو البوابةِ الحديديةِ، فالشَّارعِ، و راحت تُهَرْوِلُ نحو بيت يارا بنشاطٍ.

و الأمرُ المفاجئُ كان حين وصل الثَّلاثةُ معاً في الوقتِ نفسِه و استقبلتْهما يارا بابتسامتِها المشرقةِ و بأكوابٍ من الشَّاي السَّاخنِ عارضةً فكرةً حلوةً منَ..مِنَ..مِنَ...العَسَلِ.

(3)

لم يكنْ يَخْطُرُ ببالِ أحدِ رفقاءِ الحيِّ أن يتذوَّقوا العسلَ، ذلك السَّائلَ الذَّهبيَّ اللَّذيذَ طازجاً قد قُطِفَ لتوِّهِ إلاَّ حينَ عرضَ عليهم جَدُّ سامي أن يأخذَهُم معه إلى التَّلَّةِ المُطلَّةِ على القريةِ حيثُ يربِّي قُــفْــرانَ النَّحلِ فيريهم عملَهُ عن كثبٍ أولاً، و يتسلَّى بوجودِهم ثانياً.

و لمَّا سألوه إنْ كانَ يجبُ عليهم أن يُحْضروا ثياباً تقيهم لسعاتِ النَّحلِ، ضحِكَ و هو يسألُهم:

ـ و لماذا ؟ أتريدونَ أن تجلُبوا أقراصَ العسلِ من القُــفْــرانِ بأنفسِكُم ؟

قالَت يارا مستنكرةً:

ـ لا بالطَّبعِ لا أيها الجدُّ.

و ضحكَ من جديد:

ـ ما دمْتُ أنا الَّذي سأحصُلُ على الأقراصِ، فأنا وحدي من سيلبَسُ الثَّوبَ الواقيَ.

و لكنَّه تأملَ أقدامَهم و هو يفتِلُ شاربَيْه الطَّويليْنِ الأبيضينِ:

ـ لكنَّني أعتقد أنَّكم كلكم يجبُ أن تنتعلوا أحذيةَ الرِّياضةِ، لأننا سنتسلَّقُ التَّلةَ سيْراً على الأقدامِ.

ـ سيْرًا على الأقدامِ ؟

برمَ سامي شفتيْه مُحاولاً الاعتراضَ، فهو يعرِفُ أن الرِّحلةَ ليسَتْ قصيرةً، فهي تَستغرقُ بالسّيّارةِ عشرَ دقائقَ، فكيفَ بالسَّيْرِ على الأقدامِ ؟

لكنَّ نظرةً إلى وجهِ يارا التي بدَتْ متحمِّسة جدّاً للفكرةِ جعلَتْه يتذكرُ ما حصل فجرَ هذا اليومِ و يخجلُ من الاعتراضِ. و هذا كانَ حالُ لِيا التي أرادَتْ أن تُثْبِتَ حُسْنَ نواياها لِيارا و تنفِّذَ فكرةَ الرِّياضةِ التي يجبُ أن يفكِّرَ بها كلُّ الأولاد بالفعلِ.

أما دانيال، فلم يعترضْ لأنه فكَّرَ بهديةِ الرِّحلةِ، و هو تناولُ العسَلِ الطّازَجِ.

و ما هي إلا دقائقَ حتى كان الجميعُ عائدين إلى بيوتِهم لانْتِعالِ أحذيةِ المشيِ ثم الاتّجاهِ إلى بيتِ جَدِّ سامي في ساحةِ القريةِ.

(4)

بدا السَّيرُ مُمتِعاً في البدايةِ و خاصَّةً حينَ غنَّتْ لِيا بصوتِها العذبِ:

نصعدُ التَّلَّةَ إلى القُفرانْ

لِنجنيَ العسَلَ يا إخوانْ

و سارعَتْ يارا لتلحَقَ بها و هي تنظُرُ إليها بإعجابٍ و تقول:

ـ صوتُكِ جميلٌ.. تابعي الغناءَ.

لكنَّ لِيا طلبَتْ من يارا أن تُكْمِلَ، فجرَّبَتْ، و راحتْ تغني مُستخدمَةً اللَّحنَ ذاتَهُ:

و النَّحْلاتُ الكريماتُ

ينتظرنَنا بحَنانْ

و سارعَ سامي ليلحَق بالفتاتينِ قائلاً:

ـ لسْنَ كريماتٍ يا يارا، و إِلاَّ ما أصرَّ جَدّي على لُبْسِ الثَّوبِ الواقي.

و لما سمعَ دانيال تصحيحَ معلوماتِ الفتاتيْنِ من قِبَلِ سامي، كادَ يفقِدُ صوابَهُ خَوْفاً، فتخيَّلَ النَّحلَ قادماً إليه يهاجمُهُ دفاعاً عن عسَلِهِ، فارتجفَتْ ركبتاهُ و وقفَ مُسْنِداً أعلى ظهرِهِ النَّحيلِ إلى شجرةٍ على الطَّريقِ الضَّيِّقِ لاهثاً و هو يقولُ:

_أعتقدُ أننا يجب أنْ..
و قبلَ أن يكمِلَ جملتَهُ، سارعَتْ لِيا إليه تشدُّ يدَهُ ليتابعَ الطَّريقَ صُعوداً، لكنَّهُ تسمَّرَ في مكانِهِ و ألصقَ ظهرَهُ  كلَّهُ إلى الشَّجرةِ بقوةٍ قائلاً:

ـ لا أعرفُ لماذا نضطرُ إلى صعودِ هذا الطَّريقِ الضَّيِّقِ...

أجاب الجَدُّ شارحاً :

ـ الأمرُ بسيطٌ يا دانيال. كلُّ ما في الأمرِ أنَّنا ننقُلُ قُفْرانَ النَّحلِ في الرَّبيعِ إلى التّلالِ قريباً من الزّهرِ لتصنَعَ عسلَها...

و شدَّ يدَهُ ليتابعَ السيرَ، فمشى دانيال و عيناهُ تنظرانِ إلى الوادي الذي كانَ يزدادُ عمقاً كلما اتجهوا إلى الأعلى.

ضحكَتْ لِيا بخُبْثٍ و هي ترى دانيال يصعدُ نحو قُفْران النَّحلِ مُجْبَراً و تحاولُ أن تتخيلَ ما يدورُ برأسِه الصَّغيرِ من مَخاوفَ.

و لمَّا قالَ الجدُّ:

ـ هذا لا يعني أننا نقومُ بنقلِ النَّحلِ في الرَّبيعِ فقط يا دانيال، فنحن ننقُلُها إلى أعلى الجبال صيفاً حيثُ الطَّقسُ الباردُ و الأزهارُ التي تتأخرُ في التَّفتحِ و كأنَّها...

قالَتْ لِيا بصوتٍ عالٍ:

ـ و كأنها تنتظرُ جيوشَ النَّحلِ...

عندما سمعَ دانيال عبارةِ : جيوشِ النَّحلِْ، فتحَ عينيه بخوْفٍ، و لم يعُدْ يسمعُ قولَ جَدِّ سامي و هو يتحدَّثُ عن نقْلِ القُفْرانِ خريفاً إلى السّاحلِ و إطعامِها السُّكَّرَ السَّائلَ شتاءً حيثُ لا أزهارَ.

لم يسمعْ إلا عبارةَ الجَدِّ الضَّاحكةَ القائلةَ:

ـ تعتقدون أننا نحصُلُ بسهولةٍ على العسلِ الَّذي يَشفي الكثيرَ من أمراضكِمْ أيها الصِّغارُ إلى جانبِ ما يُشكِّله من غذاءٍ نافعٍ لكم؟

و تابعَ مُلَوِّحاً بسَبَّابتهِ:

ـ لا..لا..لا...إننا ننقُل القُفْران طوال السَّنةِ.

تابعَتْ لِيا و هي تنظُرُ بطَرِفِ عينيْها إلى دانيال اللاَّهثِ:

ـ عدا عن المخاطرِ التي يتعرَّضُ إليها قاطفُ العَسَلِ، فهناكَ جيوشٌ من النَّحلِ، و قد رأيتُ مرةً فيلماً...

و قبل أنْ تقُصَّ حكايةَ الفيلم الَّذي توقَّعَ دانيال أنْ يكونَ فيلمَ رُعْبٍ له علاقةٌ بالنَّحلِ، صرخَ بأعلى صوتِهِ:

ـ آيْ...

فتوقفَ الجميعُ و نظروا إليه ينحَني ليُمْسِكَ قدمَهُ اليسرى بكلتا يديه قائلاً:

ـ قدمي فُكَّتْ.

سارعَ الجميعُ نحوه، و رفعَ جَدُّ سامي بنطالَ دانيال ليحرِّكَ قدمَهُ فصرخَ من جديدٍ:

ـ لا تلمسْها أيها الجدُّ فهي تؤلمُني و أعتقدُ أنها تحتاجُ إلى طبيبٍ.

كتَّفَتْ يارا ذراعَيْها و هي ترى علاماتِ الألمِ على وجهه الصَّغيرِ، و وقفَ سامي حائراً و هو يقول:

ـ بكلِّ أسَفٍ لا توجدُ سياراتٌ تصعَدُ هذا الطَّريقَ الضيِّقَ، فهو طريقٌ للمُشاةِ فقط.

قالتْ يارا:

ـ و جمالُ هذه الطَّريقِ في كونِها للمُشاةِ فقط، فهي رائعةٌ لممارسة الرِّياضةِ، و لكنْ...

و علا صوتُ دانيال من جديدٍ متألماً:

ـ للمُشاةِ..آيْ...

فعلَّقت لِيا ساخرةً و هي تُقَرْفِصُ مُحاولةً أن تَلمُسَ موضعَ الألمِ:

ـ دانيال المسكين يتألمُ و أخشى أننا سنضطرُّ لتركِهِ هنا ريثما نذهَبُ إلى القُفْرانِ و نعودُ، و عندها نفكِّر بطريقةٍ لإعادتِهِ إلى البيتِ.

هز دانيال رأسَهُ قائلاً:

ـ نعم..يمكنُكُم الذَّهابَ...

قال الجّدُّ:

ـ و لكن...كيف نتركُهُ و قدَمُهُ مَفْكوكةٌ ؟

قالت يارا:

ـ لا... غيرُ مُمكِنٍ.

و قال سامي مستنكِراً:

ـ فكرةٌ غيرُ صائبَةٍ.

و قالت لِيا:

ـ أن تكونَ قدَمُهُ مَفْكوكةٌ أفضلَ من أن تكونَ مفكوكَةً و مَلْسوعةً.

حينَ سمعَ دانيال جُملةَ لِيا، تذكَّر جيشَ النَّحلِ فصرخَ قائلاً:

ـ آيْ....

و قبلَ أن يفكرَ الجميعُ بحلٍّ مثاليٍّ، نهضَ دانيال فجأَةً و استدارَ نحو طريقِ العودةِ.

وَ...وِزْزْزْزْزْزْ...............

ركضَ كالغزالِ مُتَّجهاً نحوَ القريةِ و هو يقولُ:

ـ سأعودُ لوحدي... أَصْلاً أنا لا أحبُّ العسلَ...

و توقَّفَ بعد دقائقَ ليرى الجميعَ و قدْ لحِقوا به بما فيهم الجَدُّ الذي راحَتْ كِرشُهُ تقفزُ معهُ، فعاوَدَ ركضَهُ و هو يبسِمُ حيناً  لأنه نجا من النَّحلِ و لَسْعِه، و يقْطِبُ حيناً آخَرَ لأنه خَسِرَ العسلَ الذي يحبُّه بل يعشقُه.

و مع ذلكَ، وقفَ و استدارَ مُلِياً بأعلى صوتِه:

ـ أفضِّلُ مربّى المِشْمِشِ فليسَ له جيشٌ يحميهِ.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى