الارشيف / ثقافة و فن

الوجبة

 

عدت مبتهجاً إلى شقتي و أنا أحمل كيساً فيه سمكة اشتريتها، و ستكون وجبة شهية، أشعر كأنني اصطدتها بنفسي، و ازددت بهجةً حين وجدتُ أمام الباب علبة برسيل صغيرة من تلك التي يوزعها مندوبو المبيعات و الدعايات، صاروا يختصرون على أنفسهم عناء دقّ الأبواب و انتظار الجواب، لذلك تلفتُّ حولي بحرص، لا أحد في الجوار، و هكذا استللت علب البرسيل من أمام أبواب الشقق المجاورة، و صعدت إلى الطابق الأعلى و استوليت على ما فيه من العلب. كنز ثمين و وسيلة رائعة للتوفير، و هكذا صار معي صيدان، البرسيل و السمك.

وضعتُ السمكة في الثلاجة فوراً، و سيكون أمامي فيما تبقّى من المساء أن أعصر الليمون و أحضّر التوابل لخلطها و إضافتها إلى السمك المقطّع. سمك نهري لا بأس به و إن كان البحري أطيب كما ترى خطيبتي أيضاً، و لكن هذا هو الموجود.

ربما يكون السمك هو الوحيد المفضّل لدي من بين الأحياء البحرية و المائية، أما قنديل البحر، فحدّث و لا حرج ! أنا لا أحبه، ففي طفولتي تعرّض والدي لقرصة قنديل بحر حوّلت أيام عطلتنا إلى معاناة مع مركز العلاج، إبر متواصلة، و ألم فظيع، و لم أعد أنظر إليه على أنه ذلك الكائن اللطيف الشكل المتوهّج الساحر !

حين جلستُ أخيراً على الأريكة و فتحت التلفاز طالعني وجه أعرفه، بالأحرى ليس وجهاً، فالأخطبوط ليس له وجه محدد، و سرعان ما تذكرته، إنه الأخطبوط " پول " الذي اشتهر أيام مونديال 2010. كان أحد المطاعم العالمية يحتضن هذا الأخطبوط في وعاء مستطيل شفاف، أما الأخطبوط فقد تخلّى عن كونه مشروع وجبة شهية، و صار أشهر متنبئ عمّن سيفوز في المباراة القادمة، إذ يمسك بأحد مكعبين يرمزان إلى الفريقين المتباريين ذلك اليوم، و تكون المصادفة أن يفوز الفريق المدون اسمه على المكعب الذي أمسك به "پول".

يعجبني في برامج هذه القناة الأجنبية ميلهم إلى الإيجاز، لا تتعدى مدة البرنامج ربع الساعة، أو عشرين دقيقة. هذا يشجّعني على المشاهدة و التركيز و البعد عن التفاصيل المملة و الحشو الزائد و الثرثرة، و هكذا كنت أتابع صديقي " پول " على الشاشة، و قد أصبح مسائي في ضيافة الكائنات المائية.

عينٌ على الشاشة و عين على صورة الذاكرة المتخيّلة. هذا على الأقل أخطبوط كان حياً و موثّقاً بالفيديو و الصورة و الأخبار، أما الحكايات التي ترويها لي خطيبتي صفاء، فتجعلني أحياناً أشك في أنها غريبة الأطوار. أذكر كيف أنها حدثتني عن إشاعة انتشرت أثناء دراستها الإعدادية، عن حورية بحر اصطادها أحدهم، و أنها تُعرض في دكان صغير في شارع متفرّع عن شارع السوق الشهير. أحدّثها بأنني سمعت حينها عن تلك الحورية، لكني لم أكلّف نفسي عناء الاستجابة إلى إشاعة و ترّهات كهذه. لكن صفاء تخبرني أنها ذهبت مع أختها إلى شارع السوق، و أنهما شاهدتا الحورية العجيبة، و تقول إنها تشبه تلك التي في الحكايات و برامج الأطفال، غير أنها كانت باهتة قليلاً، صفراء اللون و ملامحها ذابلة.

أسألها ساخراً : هل كانت لها زعانف ؟ تجيبني بجدّية : بالطبع، زعانف و جلد في الوقت نفسه. و حين تلمَح أنني لم أصدق الحكاية تؤكّد : كانت معي الكاميرا و لكن التصوير ممنوع هناك، تخيل أننا دفعنا مئتي ليرة لمجرد الفرجة عليها. أجيبها بأنها كانت طفلة و ربما تكون القصة كلها من نسج الخيال، و أن آلات التصوير كانت ذات جودة ضعيفة و تعتمد على الأفلام و النيجاتيف، لم تكن هناك آلات تصوير رقمية كما هي الآن. كان أسبوعاً صعباً خاصمتني فيه صفاء بسبب اتهامي و تشكيكي !

أتنبه إلى البرنامج الذي يعرض لقاءات مع زبائن المطعم الذي يقيم " پول " فيه. و أتذكّر كيف أنني بعد حكاية الحورية اضطررت إلى التظاهر بتصديق رواية صفاء حول الجنية التي كانت تسكن فناء المدرسة ليلاً، و أوصاف الجنية ذات حوافر الماعز الملونة و قدرتها الفائقة على الطيران و خزعبلات أخرى من شطح الخيال.

البرنامج يقترب من نهايته، و المذيعة تتحدث مع طباخ المطعم، يشير الطباخ إلى الارتفاع الكبير في أرباح المطعم نتيجة توافد الزوّار لرؤية " پول "، و لكنه يشرح موضحاً بأن " پول " أخطبوط في نهاية المطاف و لا بد أن يؤكل. و يشير البرنامج في الختام إلى أنه تمّ شيّ الأخطبوط و أكله، في حين تصرّح مصادر أخرى للبرنامج بأن " پول " تمّ إلقاؤه إلى الحيتان، و قد تحوّل في الحالين إلى وجبة شهية لآكليه.

ثمّ وجدت نفسي أمضي لتحضير وجبتي التي سأشويها و أتناولها بعيداً عن مشاحنات أهل الرياضة و محبيها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى