الارشيف / ثقافة و فن

مغامرات عطلة الربيع - الفصل الرابع

 

الفصل الرّابع

قلَقُ النَّهرِ

(1)

على الرُّغمِ من عدَمِ حصولِ الأصدقاءِ على العسَلِ مباشرةً من القُفرانِ، إلا أنَّهم قد اكتشفوا مكانَ الكَنـْز، و هو مطبخُ سامي الذي حَوى أنواعاً من عَسَلِ المواسِمِ.

و لم تكنْ والدةُ سامي لِتُشدِّدَ على التّرْتيبِ بعد تناوُلِ الأولادِ ما طابَ لهم، بل إنها تركَت لهم المطبخَ قائلةً جُمْلةً واحدةً هي:

ـ أغلِقوا الأغطيةَ بشكلٍ مُحكَمٍ بعد الانْتهاءِ من صبِّ العسلِ في الصُّحونِ.

(2)

قالت لِيا بعد أن شبِعَتْ تماماً:

ـ ما أسوأَ من رحلةِ السَّيْرِ على الأقدامِ إلا رحلة العسَلِ.

ضحكَتْ يارا و قالتْ:

ـ بل أعتقدُ أنَّ رحلةَ العسلِ أفضلُ بقليلٍ، فنحن، على الأقلِّ، غَزَوْنا عسَلَ سامي.

قال سامي بارماً شفتَهُ السُّفلى:

ـ لا أعتقدُ أنها كانتْ رحلةً موفَّقَةً بالنِّسبة إليِّ، فأنا لم أَغْزُ عسَلاً، و كلُّ ما حصلتُ عليه أن قدمَيَّ تُؤْلمانني بسببِ تسلُّقِ تلكَ التلَّةِ اللَّعينةِ و نزولِها.

حسَّنَت يارا جلسَتها و نظرتْ إليه باسْتِنكارٍ:

ـ هل أنتَ عجوزُ كي تشتكي ألمَ قدمَيْكَ لمجردِ تسلُّقِكَ تلَّةً صغيرةً ؟

و استغلَّت لِيا الموقفَ فوقفَتْ و وضعَت وجهَها قُبالةَ وجهِهِ و فتحَتْ عينيها:

ـ  ألا تَسْتحي أن تعترفَ بهذا ؟ مجردُ تلَّةٍ استغرقَتْ نصفَ ساعةِ مشيٍ فعلَتْ بكَ ما فَعَلَتْ ؟

في هذا الوقتِ بالذَّاتِ دخلَ دانيال و هو يَحمِلُ الكثيرَ من الموزِ وضعَهُ على الطَّاولةِ قائلاً:

ـ لا يمكنُ أن يؤْكَلَ العَسَلُ من غيرِ موزٍ أو قِشْدةٍ، فهو حلوٌ إلى درجَةٍ لا تُطاقُ.

التفتَ الثَّلاثةُ إليهِ غاضبينَ، و كادوا يسألونَه بصوتٍ واحِدٍ:

ـ تتكلَّمُ عن الإزعاجِ ؟

لكنَّ لِيا انتقلَتْ من مواجهةِ سامي إلى مواجهتِهِ و قالتْ:

ـ أنتَ أكبرُ مزْعِجٍ تحدثَّ عنه التّاريخُ و سيتحدَّثُ.

و قالتْ يارا هازئةً:

ـ على أساسِ أنَّكَ تحبُّ مربّى المِشْمِشِ أكثرَ من العسَلِ ؟

قالَ:

ـ أنا كذلكَ، و لهذا  أحضرتُ الموزَ.

قالَتْ لِيا رافعةً سَبّابتَها في وجهِهِ:

ـ أنتَ هربْتَ من صعودِ التَّلَّةِ و من النَّحلِ تمامًا كما هربْتَ من رحلةِ الأمسِ.

و كادَ يُجَنُّ و هو يسمعُ عن رحلةِ الأمسِ، فقالَ غاضباً:

ـ تتكلمينَ عن رحلةِ الأمسِ و أنتِ التي....

 و قبل أن يُكمِلَ كلامَهُ، قالتْ يارا:

ـ اسمعوا جميعاً. إن كانَتْ رحلاتُنا على شاكِلَةِ الرِّحلتينِ السّابقتينِ، فعلى عُطلةِ الرَّبيعِ السَّلامُ.

و طلبَتْ من الجميعِ الجلوسَ بهدوءٍ، فجلسوا. و بعدَ مرورِ دقائقَ سألتْهم بصوتٍ مُنخَفِضٍ:

ـ تذهبون إلى بيتِ جدتي لأُمِّي في القريةِ المجاورةِ غداً ؟

و مِن غيرِ أن يأخُذَ منهم التَّفكيرُ وقتاً أجابوا بحماسٍ على الفَوْر:

ـ نذهبُ...

(3)

كان الطَّريقُ إلى القريةِ السَّاحليةِ المجاورةِ مَزْروعاً بالأشجارِ الخضراءِ، و كان الجميعُ يفكِّرُ بكلِّ الأمورِ الجميلةِ التي وعدَتْهم يارا بها، و أهمُّها النَّهرُ الذي ما عليهم إلاَّ  أنْ يفتحوا بوابةَ حديقةِ جدَّتِها حتى يطلَّ عليهمْ بجمالِه الأَخَّاذِ.

جمالُه الأَخَّاذُ ؟

يا سلامْ!!!

يبدو هذا الجمالُ واضحاً من المِفتاحِ الحديديِّ الصَّدئِ الكبيرِ الذي سلَّمَتْهم إيَّاه جدَّةُ يارا لفتحِ البَوابةِ المُطِلَّة على النَّهر.

قال دانيال:

ـ لو عرِفْتُ أنَّ المفتاحَ ثقيلٌ إلى هذه الدَّرجةِ، لتدرَّبتُ على رفعِ الأثْقالِ.

فسَحَبَتْه لِيا من يده بقوةٍ و قالتْ:

ـ هاتِ يا نحيلْ...

فقالَ غاضباً:

ـ خُذي و أَبعدي عني شعرَكِ المنفوشَ.

غضبَتْ لِيا لأنَّه وصفَ شعرها بالمنفوشِ، و هو ليسَ كذلكَ حسبَ رأيِها، بل هو جَعْدٌ، و هي تحبُّ شكلَه لأنه مثلُ شعرِ جدَّتِها الإفريقيةِ، تماماً كما تحبُّ لونَ بشَرَتِها البنيَّ الذي يشبهُ لونَ بشَرَةِ جدَّتِها أيضاً.

قالتْ له:

ـ اسمعْ يا هذا...

و قبلَ أن تُهدِّدَه، ضغطَ سامي بطَرِفِ حذائهِ على حذائِها ثم وضعَ سَبَّابتَه طولاً على شفتيهِ، و همس:

ـ اصمُتي يا لِيا... أتريدينَ أن تقولَ جدَّةُ يارا عنَّا إِنَّنا بلا تهذيبٍ ؟

دفعتْه لِيا بعيداً دون أن ترُدَّ على رجائِهِ و هي ترفَع المِفتاحَ عالِياً: 

ـ  لن أسمحَ لكما برؤية النَّهر.

(4)

 

لكنَّها لم تستطعْ تنفيذَ وَعيدِها، فسَرْعانَ ما وصلَتِ الجدَّةُ و تناولَتِ المِفتاحَ و اجتازَتْ قبلَهم حديقتَها البدائيَّةَ الرَّائعةَ التي انتشرَتْ في أحواضِها أنواعُ الأَزهارِ و الشَّجرِ.

 ثم فتحتِ البوَّابةَ الحديديَّةَ الكبيرةَ المُغلقةَ منذ زمنٍ طويلٍ، فإذا بالنَّهرِ يمرُّ خارجَ منـزِلها و لا تَفصِلُه عن البوَّابة إلاَّ مسافة مترٍ واحدٍ فقط صُبَّ بالباطون و صُبَّت نحو النَّهر درَجَتان غمرَت المياهُ إحداهما و ظلَّت الأعلى جافَّةً.

(5)

لمعَتْ عينا جَدَّةِ يارا و هي تشيرُ إلى الدَّرَجتين مبتسمةً و قالَت:

ـ كانت صبايا الضَّيْعة يجلِسْنَ على حافَّةِ الدَّرَجِ يجْلينَ صحونهنَّ و الطَّناجرَ و يغسْلنَ الثِّيابَ و يتحادثْنَ و يتدانيالنَ، فلكل بيتٍ درَجَةٌ على النَّهرِ، و في كلِّ بيتٍ صبايا جميلاتٌ.

أما الرِّجالُ، فكانوا يجلسون على حافة النَّهر على كراسيهم الخشبيةِ، يتحدَّثون في أمورِ الضَّيعةِ، و أمورِ البلدِ، و أمورِ العالم و هم يشربون الشَّايَ.

أبعدتْ لِيا عنها دانيال، و ركعَتْ لتلْمُسَ الدَّرَجتينِ و هي تسألُ الجدَّةَ:

ـ و الأولادُ ؟

أجابَتِ العجوزُ:

ـ كان الأولادُ يسبحونَ أيامَ الصَّيفِ في النَّهرِ فلا يحتاجون إلى المسابحِ التي تذهبونَ أنتم إليها اليومَ. و كانوا يتواعدون عند القسمِ الأسفلِ من النَّهرِ حيث تصبحُ مياهُهُ بطيئةَ الحركةِ تمتلئُ بالأسماكِ.

سألها سامي بدهشةٍ:

ـ يصطادون السَّمك من هذا النَّهر ؟

أجابت يارا:

ـ طبعاً من هذا النَّهرِ، بالإضافةِ إلى توَقُّفِهِم في طريقِهم عند أشجار الفاكهةِ التي نَمَتْ على حافَّتيْهِ.

نظرَ دانيال و لِيا و سامي إلى مياه النَّهر و ضفَّتيه و الدَّرَجاتِ على جانبَيْه باحثَيْنَ عن شجرةٍ أو نباتٍ فلم يجدوا. لم يجِدوا إلا بوّاباتٍ حديديَّةً مُغلَقَةً على مياهٍ لوَّثَها النَّفطُ الَّذي يرميه أصحابُ المحطَّةِ في النَّهرِ عند مدخلِ القريةِ، و كذلكَ بقايا معملِ الدِّهانِ و معملِ المُنَظِّفاتِ الكيميائيةِ في القرية المُجاورةِ كما شرَحَتِ الجَدَّةُ.  

شهقتْ لِيا:

ـ معقولٌ ؟

قالَت يارا:

ـ إنَّه الواقعُ.

سألَ سامي بدهشةٍ:

ـ لم تعُدْ مياهُ النَّهر صالحةً يا جدةُ للغسيلِ و الجليِ ؟

قالَتِ الجَدَّةُ:

ـ و لا للسِّباحَةِ.

سألتْ لِيا يارا غاضبةً:

ـ و لا لصيدِ الأسماكِ يا يارا ؟

أجابَت يارا:

ـ و لا حتى لسَقْيِ الأشجارِ.

و بدلَ أن تُشاركَ لِيا الجميعَ حزنَهُم الشَّديدَ الذي خيَّمَ بسبِبِه صمتٌ ثقيلٌ، أطلقَتْ ضحكةً عاليةً وقفَتْ على أثرِها فاتحةً ذراعَيْها مُقَلِّدةً يارا:

ـ أهمُّ ما في بيتِ جدتي النَّهرُ الذي ما علينا إلا  أنْ نفتحَ بوَّابةَ الحديقةِ حتى يطلَّ علينا بجمالِه الأخاذِ.

و كررَتْ:

ـ بجمالِهِ الأخَّاذِ... بجمالِهِ الأخَّاذِ... بجمالِهِ الأخَّاذِ... بجمالِهِ الأخَّاذِ !

و اتَّجَهَتْ نحو حديقةِ منـزلِ جدَّةِ يارا كالعاصفَةِ بعد أن رَمتْ يارا بنظرةٍ قاسيَةٍ أتبعَتْها بقولِها:

ـ أَخَّاذٌ !

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا