الفصل الخامسُ
نَسْبَحُ في... بِرْميل قُمامةٍ
(1)
في اليومِ الذي أصرَّ فيه سامي على الذَّهابِ إلى شاطئِ البحرِ للسِّباحةِ برفقةِ عمِّهِ و دانيال الصَّغيرِ، استنكَرَتْ لِيا و يارا الفكرةَ قائلتَيْنِ إنَّ السِّباحةَ خُلِقَتْ للصَّيفِ.
و اعتبرَ سامي رفضَهما تَعدِّياً على حرَّيتِه و حريَّةِ دانيال، فهمسَ في أُذُنِ دانيال الصَّغيرِ قائلاً له :
ـ يارا و لِيا لا تُجيدانِ السِّباحةَ مثلنا، لذا لا يمكنُهما أن تشجِّعانا عليها، بل إنهما تغاران من الحُبورِ الذي سيملأُ نهارَنا و إلاَّ ما ادَّعتا أن السِّباحَة خُلِقَتْ للصَّيفِ.
و لما سمعَتْ لِيا اسْمَها و ما وراء الاسمِ، اقتربْتْ من سامي غاضبةً ثم سحبَتْ يدَ دانيال تسألُه :
ـ سمعْتُ اسمي، سمعْتُه يقول لِيا، فماذا قالَ لكَ ؟
خافَ دانيال الجبانُ، و تلعثمَ قائلاً :
ـ لا..لا..شيءَ.
اقتربَتْ يارا لتقفَ بينها و بين دانيال رافعةً سَبَّابتها في وجْهها :
ـ ألا تستطيعين مجابهةَ سامي فجئْتِ لتُجابهي دانيال الصَّغيرَ ؟
و اعتبرْتْ لِيا سؤالَ يارا و سبَّابتَها المرفوعةَ في وجهِها تَحَدِّيَيْنِ اثْنَينِ، فاتجهْتْ إلى سامي و الغضبُ يتطايرُ من عينيها قائلةً :
ـ أنتَ تعرفُ، يا سامي، أنني أحرَزْتُ بطولةَ سباحةِ البناتِ في مدرستِنا السَّنةَ الماضيةَ.
فابتسمَ ابتسامةً ساخرةً و قالَ هازئاً :
ـ هِئْ.
و زادَ غضبُها، فاقتربَتْ منه أكثرَ، لكنَّ يارا وقفَتْ بينهما من جديدٍ :
ـ كُفَّا !
قالتْ لِيا :
ـ إنه يهزأُ و إلا ماذا يعني بقولِ " هِئْ " ؟
قال سامي بِتَحَدٍّ :
ـ أقصِدُ لو أنكِ ما زلْتِ ماهرةً في السِّباحةِ لما اعترضْتِ على ذهابِنا و قضائِنا يومًا حافلاً بالمَسرَّاتِ بينما أنتِ جالسةٌ تُنهينَ فروضِ العُطلةِ في هذا اليومِ بالذّاتِ.
قاطعَتْه:
ـ أنا فعلاً أريدُ تَكْريسَ يومٍ من أيّامِ العُطلةِ للدِّراسةِ لأحْظى بعلاماتٍ ممتازةٍ أفخَرُ بها آخرَ السَّنةِ بدلَ أن أُخفيَ ورقةَ العلاماتِ تحتَ سابعِ أرضٍ فلا يستطيعُ الذُّبابُ الأزْرقُ أن يجدَها كما تفعلُ أنتَ كلَّ عامٍ يا سامي.
قالَ مُتحدِّياً من غيرِ أن يجْرُؤَ على التَّحدثِ عن علاماتِه آخرَ كلِّ عامٍ :
ـ وفَّقَكِ الله.
فقالَتْ يارا :
ـ أنا من رأْيِ لِيا، فالعلاماتُ الجيدةُ تستحقُّ أن نُكرِّسَ لها و لو يوماً من أيامِ عُطلتِنا.
و لما سمعْت لِيا رأيَ يارا، سارعَتْ إلى تقبيلِ خدِّها، ثم رفعْتْ رأْسَها عالِيا و خاطبَتْ سامي :
ـ اذهبْ يا نُحاسيَّ الشَّعْرِ.
و لما وقفَ دانيال بجانبِه حَزِناً قالتْ له :
ـ و أنتَ يا صغيرُ اذهبْ معَه لعلَّ سمكةَ سردينٍ تبتلعُك فتؤخَذَ و تُملَّــحَ و تُعلَّــبَ في الزَّيــتِ.
غضِبَ و ضربَ الأرضَ بقدمِهِ الصَّغيرةِ فضحكتْ لِيا قائلةً :
ـ تحتاجُ سمكةُ السَّردين إلى اثنينِ مثلكَ.
لكنَّ يارا لكزَتْها لتَكُفَّ، خاصَّة و أنَّهما لمَحَتا في عينيْهِ دُموعاً على وشْكِ الانفجارِ.
اقتربَتْ لِيا منه رافعةً ذقنَهُ بسَبَّابتها، و قالتْ :
ـ إنَّني أمازحُكَ.
و التفتَتْ إلى سامي مبتسمةً ابتسامةً غيرَ صادقةٍ، و قالتْ :
ـ أتمنى أنْ تقضيا وقتاً سعيداً.
فابتسمَ ابتسامةً لا تقِلُّ كَذِباً عن ابتسامتِها، و قال :
ـ شُكراً يا لِيا.
و أتبعَها بقوْلٍ عرَفَتْ أنه لا يقصِدُه :
ـ أنتِ لطيفةٌ.
(2)
هدأَ الحيُّ.
جلسَتْ لِيا تقرأُ قصةً على حافَّةِ حَوْضِ الحديقةِ قبل أن تتفرغَ للدِّراسةِ طوالَ اليومِ، و جلسَتْ يارا بجانبِها تطالعُ كتاباً عن الكواكبِ. و لم تمضِ ساعةٌ على جِلْستْهِما تلكَ حتى رنَّ هاتفُ لِيا الجوَّالُ، فهمسَتْ لِيارا :
ـ إنَّه رَقْمُ هاتفِ سامي.
قالتْ يارا :
ـ لا تردِّي، إنه يرسلُ إشارةً فقط كي يقول إنَّه سعيدٌ في البحرِ.
لكن الرَّنَّات تتالتْ، فردَّتْ لِيا :
ـ إيهِ يا نُحاسيَّ الشعرِ، ما لونُكَ بعد أن تبلَّلْتَ ؟
و أرسلَتْ ضحكةً فضحكَتْ يارا بدورِها، و أجابَ :
ـ اللَّونُ الأصليُّ لا يذهبُ بمجردِ أن يتعرَّض للبَلَلِ.
فضحكْتْ لِيا و قالتْ :
ـ سنرى عندَ عودتكَ.
و أقفلَ الخطَّ بعد أنْ قالَ :
ـ سأتَّصلُ بعدَ قليلٍ.
(3)
و لم تمضِ دقائقُ حتى رنَّ هاتفُ يارا فنظرَتْ إلى لِيا بدهشةٍ :
ـ إنَّه سامي !
و لما تتالتِ الرَّناتُ، ردَّتْ يارا و قد رفعَتْ صوتَ هاتفِها لتَسمعَ لِيا، فقال :
ـ يارا.. أنتِ وحدكِ ؟
وقفتْ لِيا قبالتَها و هزَّتْ رأسَها عدة مراتٍ لتقولَ نعمْ، و لمَّا أجابَتْ بنعم قال :
ـ اسمعي يا يارا. أنا لا أريدُ أن تسمعَني تلك الشَّقيةُ لِيا.
و قبلَ أن يعلوَ صوتُ لِيا اعتراضاً على وصفِهِ لها بالشقيَّةِ، أمسَكَتْ يارا بيَدِها و شدَّتها لتجلسَ بصمتٍ و خاطبَتْهُ :
ـ ماذا هناكَ ؟
قال :
ـ رِحلتُنا فاشلَةٌ يا يارا.
سأَلَتْه يارا :
ـ لماذا يا سامي ؟ ألم تَسْبحا ؟
قال :
ـ بلى سبَحْنا.
و أردفَ :
ـ سبَحْنا يا يارا في كمِّياتٍ من النَّفْطِ كانت قد وَجدَتْ طريقَها إلى البحرِ بفعلِ مياهِ الأمطارِ التي تجري في الشَّوارعِ.
و أخذَ نفساً ثم تابعَ :
ـ سبَحْنا يا يارا في كمِّيَّاتٍ من نفْطِ السُّفُنِ التي تَغْسِلُ خزاناتِها بمياهِ البحرِ.
و تنهدَ و تابعَ :
ـ سبَحْنا يا يارا مع الملوِّثاتِ السَّائلةِ النَّاتجةِ عن المرافِقِ الصِّناعيَّةِ.
و قال :
ـ مع أكياسِ النَّايلون يا يارا، مع عُلَبِ البلاستيك، مع كلِّ النُّفاياتِ المرميَّةِ في مياهِ البحرِ، مع الأسْماكِ و السَّلاحفِ و الحيتانِ الميتةِ.
سألتْهُ يارا :
ـ و لكن يا سامي.. ستسببُ كلُّ هذه القذاراتِ لكُما أمراضاً جلديَّةً و تنفسيَّةً خطيرةً، فلماذا لا تُغادرانِ الماءَ ؟
قال :
ـ لماذا لا نغادرُ الماءَ ؟ لقد غادرْناه بعدَ خمسِ دقائقَ فقط.
سألَتْهُ :
ـ و ماذا تنتظرانِ ؟ لماذا لا تعودانِ إلى البيْتِ و تغسلانِ جَسَدَيْكما ؟
أجاب :
ـ لقد عُدْنا و غسلْنا جَسَدَيْنا.
شهِقَتْ يارا، و كتمْتْ لِيا شهْقَتَها، فسألَتْه يارا :
ـ و أينَ أنتما الآن ؟
أجابَ :
ـ في منـزلِ دانيال نتغدَّى.
سألتْه يارا بينما كانتْ تستعدُّ لاقتحامِ منـزلِ دانيال في أولِ بنايةٍ من أبنيةِ الحيِّ :
ـ و لماذا لم تنضمَّا إلينا ؟
قال :
ـ لئلا تشْمَتَ بنا تلكَ الشَّقيةُ لِيا.
(4)
سمِعَتْ لِيا أولَ الجملةِ عندما كانتْ قربَ يارا. أما آخرها، فسمعَتْه من فمِ سامي شخصيّاً بعدَ أن فتحَ لها دانيال البابَ فاتَّجهتْ إليه كالصَّاروخِ تمْسكُ بشعرِه الجَعْدِ، فأقفلَ الهاتفَ بذُعرٍ و نظرَ إليها مُسْتغرباً :
ـ لِيا ؟
قالتْ :
ـ سبَحْتما في بِرميلِ قُمامةٍ عملاقٍ ؟
استنكرَ قائلاً :
ـ نحنُ سبَحْنا في بِرميلِ قُمامةٍ عملاقٍ ؟!
شدَّتْ قبَّةَ قميصِه :
ـ أين سبَحتُما إذن ؟
فاعترفَ :
ـ سَ...سَ... بَحْنا في بِرميلِ قُمامةٍ عملاقٍ !