جلستُ إلى صفحة فيس بوك، أبحث عمّا يفسّر الأمر الذي يشغل بالي. فأنا أشعر أنني أصبحت إنساناً محظوظاً فجأة، ليس مجرد محظوظ و إنما " سوبر محظوظ ". نزل عليه الحظ من السماء. في الواقع، إنّ حياتي جيّدة : شاب ناجح في وظيفتي و إن كانت ضمن القطاع الخاص، لأنني أنتظر التوظيف الحكومي منذ عشر سنوات. أما الغرفة و نصف التي أستأجرها في هذه المدينة، فهي ذات إيجار مناسب، و تقع في شارع عام أستقلّ منه أيّ حافلة توصلني إلى الشركة مقرّ عملي وسط المدينة. و تصل الحافلة أيضاً إلى مركز انطلاق حافلات أو كما أسميها أنا : شاحنات الناس و البضائع، إلى قريتي.
تتلخّص قصّتي مع الحظ في أنني صحوت كعادتي ذات يوم و سُعدت برؤية قوس قزح الذي أحبّه عقب مطر ربيعي خفيف. اعتبرته فأل خير لأنني لم أره منذ عام كامل. وجدت بسرعة مكاناً في الحافلة؛ مكاني المفضّل بجانب النافذة قريباً من باب النزول. مرّ زمن طويل لم أحظ فيه بهذا المقعد، فكلّ مرة أجده مشغولاً بأحد الركاب. اعتبرت الأمر مصادفة جميلة بعد أن نسيت قوس قزح تماماً. و استمر يومي طبيعياً بلا أي منغصات. كان الجيد هذا الأسبوع أن زميلي المزعج في العمل، و الذي أجد ظله ثقيلاً علاوة على تدخّله في شؤوني الخاصة بأسلوب سمج، قد أخذ إجازة يومين، و هكذا حظيت ببعض السكينة.
ما حصل لاحقاً كان يصبّ في خانة الحظ الجيد، لم تتكرر رؤيتي لقوس قزح لأن الطقس أصبح قريباً من الصيفي الحار، و لكنني كنت أجد مقعدي المفضل جاهزاً في الحافلة. عاد زميلي السمج من إجازته لكنني لم أعره كبير اهتمام. استدعاني المدير إلى مكتبه، خشيت أن يكون الأمر متعلقاً بإحدى الهفوات التي تحصل بين حين و حين، و قد لا يفلح التستر عليها دائماً. و لكنه فاجأني بقرار ترقيتي رئيساً للقسم الذي أعمل فيه. انتابني ذلك اليوم إحساس النشوة؛ كنت أجلس فوق غيمة أشبه بوسادة قطنية كبيرة محلقة في السماء، غير أن إحساسي بالغيوم تواصل فكنت أشعر أنني محاط بغيمة ضبابية تحملني على أكف الراحة و تقيني المساوئ، فالحظ معي أينما اتجهت.
سارت الأمور على خير ما يرام، ربحت هاتفاً جوالاً مع خط هدية مع إحدى السلع من مركز تجاري مفتتح حديثاً، قامت البلدية بتسوية الشارع الفرعي و تزفيته، و إنارته ليلاً، فكف عن كونه متكأ للمتسكعين، و ارتحنا من إزعاجاتهم المتكررة المقلقة.
و ابتسم لي الحظ من جديد عندما اتصل بي صديقي يعلمني بأنه حقق أرباحاً في المبلغ الذي يستثمره في التجارة. كنت قد شاركته بمبلغ لا بأس به من المال، طمعاً في أرباح ينالها مشروعنا المشترك الذي يديره هو، و لكن في الآونة الأخيرة و مع اختفاء صديقي هذا أخذ ينتابني الشك في أن النقود طارت، إلى أن جاء اتصاله و أبلغني بلقائنا الوشيك.
كان لا بدّ مع نهاية الأسبوع من جلسة لعب الورق المعهودة مع الأصحاب، من الجيد أن اللقاء في منزل فارس، لم أعرف ماذا كان يمكن أن أفعل لو أن اللقاء عندي أنا. واصل الحظ ابتسامه لي، أخذت أربح الورقة تلو الأخرى، مع أنني لست بارعاً في اللعب، خاصة بوجود صديقنا باسم الضليع و الحاذق في اللعب : يحفظ كل الأوراق التي سبق طرحها في الساحة، و ما واصلَ منها التداول و ما خرج، و يقدّر وفقاً لذلك ما تبقى عند كل اللاعبين. خسارة أنك لا تعمل معنا في الشركة ! هذا ما كنت أقوله له دائماً.
هذه المرة كانت أوراقي رابحة، في الدور الأول، و الثاني. حاولت التملص من حظي و تساهلت لأجعل أوراقي مكشوفة، و تقصّدت أن أتداول أوراقاً غير مناسبة، و لكن اللعبة كانت تدور لتكون النهاية في صالحي، شعرت أن الحظ ورقة " جوكر " تسد الفراغ. اقترب الجوكر يمد يده مصافحاً، فصحوت من خيالي، هربت و غادرت الجلسة في منتصف اللعبة معتذراً بأول عذر خطر في بالي.
" أهذا وقت المغادرة ؟ أنت في أوج انتصاراتك ! "
خرجتُ ممازحاً : سأكمل الجولة في المرة القادمة.
خيال الجوكر بملابسه الحمراء البيضاء المضحكة يتراءى لي في ظلام الليل مع الإنارة الشحيحة في الشوارع المؤدية إلى البيت. كان يبدو لي بقدم حافية و الأخرى تنتعل جزمة بالية تتدلى منها الخيوط، يؤدي حركات بهلوانية و يشير إلى السماء و هو يتقلب بحركات قافزة. كنت قد أصبحت في وسط الشارع عندما شعرتُ بشيء مرّ سريعاً من ورائي تبعه نفير بوق سيارة و شتيمة : " ..... ألا تنظر أمامك يا..... ؟ "
لم تدهسني السيارة إذاً ! حظ جيد.
كان الجوكر قد اختفى فصحوت من جديد. قررت هذه المرة التمرد على الحظ الملتصق بي، و ليكن ما يكون، لن ألفت انتباه أحد، سيبدو الأمر طبيعياً، سأتظاهر بأنني تعثرت وسط الطريق، و بسبب الظلام لن تراني السيارات، و قبيل أن يحدث الاصطدام سأتدارك نفسي و أنجو...
لم تنجح الخطة، عندما اصطنعت التعثر، تعثرت بالفعل و علقت قدمي في طرف مسنن لغطاء مجرور، كان حذائي قد علق و السيارة القادمة لا توحي بأنها رأتني، و في اللحظة التي خلعت فيها الحذاء للركض و النفاد بجلدي، كانت صفارة الشرطي قد أوقفت السيارة قبل مترين اثنين. تورّطتُ في مناوشة مع الشرطي و صاحب السيارة و بعض الفضوليين المتجمهرين في المكان، و انصرفتُ بعد أن أكد لي الشرطي بأنني " رجل محظوظ " !
يساورني اعتقاد دائم بأن الحياة هي سلسلة من المصادفات، التي تقود إلى مفارقات، منها الجيد و منها السيئ. قضيت ما تبقى من طريقي إلى البيت و أنا مع هذه الأفكار، و خلصت إلى اعتقاد آخر بأن من غير الطبيعي أن تكون كل المصادفات جيدة كما يحصل معي. أن تَطلُب الحظ فهذا أمر مألوف، أما أن يسعى هو إليك رغماً عنك... هل يعني هذا أن هنالك من يدفع الثمن على الطرف الآخر من المعادلة ؟ أي أن ثمة شخصاً آخر معاكساً يحصل معه النقيض، مبتلى بسوء الحظ.
سمعت عن فرضيات تقول بأن ثمة كواكب أخرى بعيدة مجهولة، من المحتمل أن عليها أناساً مثلنا يشبهوننا إلى درجة التطابق، فهناك شلة أصحاب شبيهة بنا و بأسمائنا، أنا و فارس و باسم... و يوجد مدينة كهذه مع حافلات و شركات و بلدية و شارع مهجور.
و لكن لم أسمع شيئاً عن النقيض على الكوكب نفسه في مسألة الحظ.
شغلتني هذه الفكرة بما يكفي، فأصبح هاجسي هو البحث عن نقيضي ذي الحظ العاثر، فقد بدت لي هذه الفرضية مقبولة. أخذت أحصي مَن حولي من الناس. كيف لي أن أجده بينهم ؟ هذا إن كان موجوداً أصلاً، و أنا لا أكاد أتبادل التحيات العابرة مع جيراني. ما احتمالات وجوده في قريتي مثلاً ؟ أأفتش عنه هناك ؟
مضيت إلى غوغل، محرك البحث الشهير، و فتشت عن كثير من المنتديات و المواقع و لكن لم أعثر على شيء مفيد. ظهرت بعض النتائج المشجعة المرتبطة بموقع " فيس بوك " الرائج.
بحثت أولاً في المنتديات العامة و المدونات الشخصية، و لكن لم أعثر على أكثر من مقالات و خواطر يكون الحظ فيها مجرد كلمة عابرة أو مكوِّناً لجملة مختلفة المقاصد. ثم قصدت موقع فيس بوك. كتاب الوجوه، خطرت في بالي الترجمة الفورية له. اسم مناسب فعلاً، أغلب ما تراه هو واجهات و وجوه، منها المبتسم و منها الحيادي و أشكال نباتات و ما إلى ذلك من صور ملتصقة مرفقة بزوايا الموقع. أدخلت الكلمات في فراغ البحث، و تقاذفتني الصفحات؛ صفحات شخصية، و أخرى جماعية تلتف حول شخصية عامة أو مطرب شعبي أو نخبوي و أشياء مثل عشاق الطبخ و المفروشات و كارهي المسابقات التلفزيونية... حسبت أنني لن أوفق في العثور على شيء. كلمة الحظ تدخل في مجالات كثيرة. بعضهم يستهدف مطرباً شهيراً بتدوين ملحوظات تقول : إنّ " حظه " جيد لأن شركة غنائية كبيرة تتبناه و أنه من دونها لا شيء لا صوت و لا صورة و لا....، صفحة أخرى تقول إن من حظ البشرية نبوغ عبقرية المخترع " نيوتن " و لولاه لكنا الآن كسكان الكهوف... صفحة ثالثة وجدتُ فيها أقوالاً مأثورة عن عدم الاستكانة إلى خرافة الحظ. أهو خرافة حقاً ؟!
كدت أيأس لولا وجه أصفر حزين تحته عبارة " حظي يتخلى عني ! الحظ السيئ يلاحقني ". أيكون هذا نقيضي الذي أبحث عنه ؟
كان اشتراكي في خط الإنترنت قد تجاوز عدد الوحدات المدفوعة، و أصبحت كل دقيقة محسوبة بسعر أعلى، و لكنني واصلت التصفح بشعور من عثر على كنز.
قضيت يوم العطلة و أنا أقرأ ما دوّنه الوجه الحزين الأصفر، و ما يدوّنه المتعاطفون معه أسفل كل فقرة يكتبها. كان عجيباً إلى حدّ فائق. تاريخ معاناته يطابق تماماً اليوم الذي شاهدتُ فيه قوس قزح، و لكن المسكين بدلاً من أن يشاهده عانى من اختراق حجر لزجاج نافذته، فملأت الشظايا أرض الحجرة. مقابل كلِّ حدثٍ جيد يحصل معي، كان ثمة نقيض غريب يحيط به. " هناك من يسبقني دائماً للجلوس في مقعدي المفضل "، " المصباح يتعطل في شارعنا الفرعي "، " المتسكعون يخيفون أطفالي في الليل "، " شريكي يهرب بالمال إلى الخارج "، " فُصلت من وظيفتي بسبب وشاية "، " أنا أفضل لاعب ورق يتخلى الحظ عني "، " رضّ في قدمي بسبب سيارة هائجة " !
كنت حتى تلك اللحظة راغباً في عدم تصديق كل هذه المصادفات، لذلك بقيت على تواصل مع هذه الصفحة و إضافاتها طول الأسبوع التالي.
ربحتُ أنا بطاقة سفر لشخصين هبطت عليّ من اشتراك قديم منسي في إحدى القسائم، في حين غُرّم الوجه الأصفر الحزين بمخالفة سير رغم أنه لا يمتلك سيارة، و ذلك لتشابه اسمه مع اسم آخر. نُشلت محفظتي في أحد الأسواق المزدحمة، و لكنها أعيدت إلي في اليوم نفسه. أما هو فقد سُرق هاتفه الجوال الثمين الجديد، و لم يعثر عليه.
شعرت بتعاطف كبير معه، و لكن سأزيده صدمةً لو علم أنني مغناطيس يجذب الحظ منه إليّ ! أو أنني القطب الموجب و هو السالب ! لعلّه لن يلقي إليّ بالاً أو يظنني من المعتوهين. قررت أن أخصص يوم الجمعة القادم لمحاولة مواساته، سأدون تعليقاتي أسفل فقرته في الصفحة الإلكترونية، و لعلنا نتعاون لإعادة الأمور إلى نصابها و البحث عن حلّ منطقي.
و لكن ما حدث أعاقني كلياً عن هذا المشروع، أو بالأحرى أعاقه هو.
ركبت سيارة أجرة لأصل بسرعة إلى البيت، إنه الخميس و لا بد من إنجاز بعض الأمور قبيل سهرة الأصحاب التي ستكون مميزة في مزرعة يملكها قريب لباسم.
قرر السائق اختصار الزحام و انعطف إلى المحلَّق المحيط بالمدينة ! " هكذا نخرج من الزحمة، و ندخل قبل شارعين من بيتك ". أجبته بغضب : " هذا الطريق أطول بمرتين ".
" لا يعجبك ؟ انزل فوراً "، قال السائق و قد ضغط على المكابح فحرنت السيارة فوراً في مكانها. " يا لك من.... " لم أكمل جملتي إلا و نفير عالٍ من ذاك الذي تطلقه الشاحنات يدوي في المكان، ثمّ تخبّط رأسي بالسقف و ضغطت قوة هائلة على كتفيّ و كان أنفي يرعف. ثم سكن كل شيء.
نجوت بأعجوبة و مات السائق، و بعد ثلاثة أيام في المشفى، و مع عودتي إلى البيت، كانت صفحة زميلي ذي الوجه الأصفر الحزين في فيس بوك جامدة متوقفة عند صباح الخميس، دون خبر أو إضافات، أو تنويه بإغلاق الصفحة، وحدها كانت تعليقات الآخرين تطرح أسئلة جوفاء عن مصيره و سبب انقطاعه دون أي جدوى.