تأخّرت طائرة اليوم في الإقلاع. و لذلك وصلنا متأخرين ساعتين. إنها الثامنة و عندي بعض الوقت لترتيب الأمور. هذه المرة سأقوم بتغطية صحفيّة لندوة اقتصادية اجتماعية. اطمئني يمكنني أن ألمّ بالموضوعات المطروحة و أُجري ما يلزم من اللقاءات مع أهم المحاضرين و تجهيز ما يلزم من المواد.
أعتقد أنني سأكون مرتاحة في هذه الغرفة. صغيرة نوعاً ما و لكنها مرتبة، يبدو الفندق من الطراز متوسط الحداثة، و لكنه يليق بالندوة الدولية. الجيد في الأمر أنني في بلد عربي و لن أعاني من التفاهم مع الآخرين. تذكرين رحلتنا المشتركة قبل سنتين إلى الهند، واجهنا بعض الصعوبة في استخدام اللغة الأجنبية.
ها قد عدت. آسفة لانقطاع الأفكار، جاء للتو مستخدَم الفندق، أحضر لي وصلة كهرباء للأجهزة الثنائية. و الآن بعد أن وصلت الكمبيوتر بالكهرباء بدلاً من تشغيل البطارية أعود إلى لوحة المفاتيح.
لا يهم أين وقفنا. هل تصدقين ؟ كنت أوقّع على ورقة الأمانات، أدوّن رقم الغرفة، لن تتخيلي : رقمها 1313، الغرفة تقع في الطابق الثالث عشر. يا للرعب ! قبل رحيلك لم أكن آبه لهذه الخرافات، رقم حظ و آخر...، لكنني الآن بتّ أكثر حساسية تجاه أمور كهذه. إنها آخر غرفة في الممر الطويل. هههههه على أية حال أخمّن أن مخرج الطوارئ قريب إذا حصلت أية مفاجأة، سأقفز حينها ما رأيك ؟ لا أخفيك أنني خشيت لوهلة أن يختفي هذا الطابق من الوجود كما شاهدنا في أحد برامج التحقيقات، تخيلت أن المصعد سيتخطى الرقم 13 و كأنه غير موجود لأرى نفسي على السطح أو في عالم خلّبي. و لكنّ الواقع كان رحيماً بي و لم يحصل شيء.
ما يشفع لهذه الغرفة أنها جيدة، المكيف يعمل، و كذلك البراد، و كل الأجهزة، بما فيها جهاز فاكس. و الأهم النافذة ذات الإطلالة. ألا يذكّرك هذا بعنوان فيلم شاهدناه في التلفزيون ؟ نعم : غرفة ذات إطلالة. كان الفيلم رومانسياً إلى حدّ بعيد، و شاركك خطيبك حسام الرأي حينها.
أعتقد أن إطلالة النافذة لا بدّ جميلة في النهار، أما الآن فلا يبدو سوى الظلام. استغربتُ في أول الأمر عندما أزحت طبقتَي الستائر السميكة، فالطقس حارّ جداً، و تراءى لي أن ما خلف النافذة مظلم تماماً ما عدا أبنية بعيدة و سماء بلا نجوم. الزجاج سميك للغاية. حاولتُ أن أفتح فردة النافذة لكني لم أفلح. أغلب الظن أنها غير قابلة للفتح، و معنى هذا أنها غير ملحقة بشرفة، بل تحتها حديقة الفندق أو الشارع مباشرة. قلت لنفسي : و لكن ما هذه المساحة المظلمة الممتدة ؟ و سرعان ما فكّرت أنها شرفة كبيرة « ترّاس » لعلّه سقف مطعم أو أي وحدة خدمية أخرى. سيكون من الرائع أن أكتشفها في الصباح.
مساء الخير يا سالي، آسفة، هذه المرة جاءت موظفة الفندق تسلمني مصنفاً فيه ملخصات أبحاث الندوة. شيء جميل حقاً، سيكون مناسباً و مفيداً أن أطّلع على أفكار الندوة قبل انعقادها، هذا يسهّل الكثير من الأمور. هل تعلمين بأن إدارة الندوة خصّصت موقعاً إلكترونياً لتحميل الصور ؟ رائع ! لن أضطر إلى التعاقد مع مصوّر مغرور مرتفع الأجر، و التفاهم مع مدير التحرير في الصحيفة هناك في دمشق.
بالمناسبة الإنترنت هنا ممتازة، خدمة لاسلكية في كل أرجاء الفندق و مفتوحة. فور انتهائي من الكتابة سأرسل لك الرسالة إلى بريدك الإلكتروني... سأحاول ألا تطول رسالتي هذه، أصلاً لم يتبقّ سوى القليل أكتبه لك و أرسله ثم أنام كي أستيقظ باكراً لحضور الافتتاح.
لن أقول لكِ إن روحك تخيم عليّ هنا. أعتقد أن روحك بقيت هناك في دمشق و لكنكِ حاضرة معي. تخيّلي، خلفية شاشة الحاسب المحمول هي صورتنا أنا و أنت. عندما يراها الناس يعتقدون أنني معجبة بنفسي جداً إلى درجة وضع صورتين متلاصقتين لي ! و عندما ألفت نظرهم إلى الفروقات الطفيفة بيننا يقولون : آه، أختك التوءم إذن. و لكن أين هي ؟!
روان وسالي، اختار لنا والدانا هذين الاسمين غير المألوفين في بلادنا. بالمناسبة إنهما يذكرانك دائماً ولازالت أمي تناديني «سالي» أحياناً، ثم تفطن إلى رحيلك وتمضي إلى المطبخ باكية. أرجوك يا سالي لا تبكي أنت أيضاً، ارحمي قلبك الضعيف، الذي منذ اكتشفناه صرت أنت الأضعف، وأنا الأقوى، ولكن ما الفائدة الآن؟
حسام أغرق بريدك الإلكتروني بالرسائل عقب رحيلك. كان صادقاً في حزنه، رقيقاً كما عرفناه جميعاً... أحد عشر شهراً مضى على غيابك، آخر رسالة وصلتك منه كانت منذ شهرين، و...
منذ أن أعطيتني كلمة مرور بريدك و أنت في المشفى، و أنا ملتزمة بتفقد البريد، حتى بعد أن انتهى كل شيء. و كيف نكون على هذه الدرجة من البعد دون أخبار ؟ سأستمر في الكتابة إليك، و التأكد من وصول رسائلي !
سالي و روان، روان و سالي. سالي ذات القلب الضعيف. كنتِ دائماً الأكثر شفقةً، على الناس و الحشرات و القطط و... كل شيء. قلبك ضعيف و أنت تشتكين لي من تلك المجسّات اللزجة التي تلتصق بك لفحص النبض، و الابتسامات الواهنة من حولك و سراب الوجوه الغائمة من تحت المصباح المتدلي من السقف أو أضواء النيون في غرفة الطبيب، و غرفة المشفى و... و بعد تلك العملية استحلتِ إلى وردة ذابلة. سالي الحلقة الأضعف... سالي...
لنضحك قليلاً بعيداً عن الحزن. جدتي إلى الآن لا تذكرك إلا باسم « سلوى »، هي الوحيدة التي تناديك بهذا الاسم. تقليديةٌ جدتنا إلى حدّ بعيد. لم يعجبها اسم « سالي » الأجنبي الطابع، فحلّ « سلوى » محله، تماماً كما تكره أن نلبس البنطال، و تقول إنه ليس لائقاً بالفتيات.
تذكرين جيداً فنجان روميو و جولييت، الذي « نشلناه » من خزانة صحون جدتي. اصبري قليلاً قلت لك إن رسالتي لن تطول، ثم إنني أغالب النوم. آخر مرة كنت مع جدتي حكيت لها قصة روميو و جولييت، لم تعجبها ! استهجنت فكرة الموت في سبيل الحب، قالت : أناس يرمون بأنفسهم إلى حتفهم و آخرون يرحلون رغماً عنّا. و صمتنا...
اطمئني، سأحرص على الفنجان الذي يحمل رسم روميو و جولييت، لن يقع أو ينكسر...
و تتنبه روان من غفوتها المفاجئة إلى ساعدها الذي اصطدم بالمزهرية المجاورة فمالت على الطاولة و انكسرت. « ورد صناعي... لا يهمّ ! » رددت روان لنفسها، و اكتشفت أنها وصلت في رسالتها إلى ما قبل حديث الجدّة. إلى عبارة « وردة ذابلة » و كان الباقي أفكاراً فقط. فأضافت : « حسناً عزيزتي سالي... سأكمل غداً ». ثم ضغطت زر الإرسال.
و قبل أن تخلد روان إلى النوم وقع نظرها على ورقة « حكمة اليوم : العبرة بالخواتيم – شكسبير ». إلى هنا يلحقنا شكسبير !
و في الصباح اتصلت موظفة الفندق في الموعد المطلوب. تذكرت روان نافذة الغرفة، فاتجهت نحوها بحماسة و أسرعت تزيح الستائر بحثاً عن الإطلالة... أبصرت الأبنية البعيدة و السماء المغبرة، و على الامتداد تحتها أرض رملية واسعة تفترشها أضرحة و شواهد قبور إلى ما لا نهاية...
صباح الخير يا سالي !