قصة قصيرة
جيران .... و لكن ؟
(7) الحلقة السابعة و الأخيرة - ( القسم الثاني والأخير )
و سافرت حياة إلى إيطاليا عند ابنها قصي، و كان اللقاء رائعاً و مؤثراً جداً ... فقد كان الشوق كبير بين الأم و ابنها ... الذي لم تكن الفرحة تَسِعَهُ .. و كان في إجازة أخذها خصيصاً من معهده ليزور مع أمه كافة الأماكن السياحية الجميلة و الرائعة .... و خاصةً في ميلانو و روما .... حيث التقطا الصور الجميلة في المتاحف و الكاتدرائيات و الفاتيكان و ساحات إيطاليا المشهورة و نافورة الحظ و بحرتها و التماثيل الرائعة في كل مكان ... و المطاعم الإيطالية المشهورة بشكلٍ عام، و مطاعم روما بشكلٍ خاص ... و أزقة روما الضيقة الجميلة ... و بيوتها الأثرية الرائعة ... الخ، من جمال الطبيعة و الحياة هناك ....
نسيت حياة بهذا الزخم من المشاوير و الرحلات الرائعة، و في كل يوم مشوار شكل من جهة، و أصدقاء قصي الذين كانوا يحبونه جداً و قاموا بدعوته و أمه أكثر من مرة، و ذهبوا جميعاً في رحلات بحرية و جبلية كثيرة .....
نسيت حياة جارها منير .... هكذا حتى اقترب موعد عودتها إلى دمشق .... و تذكّرت أن لها جار وعدته بأن تكون على اتصال معه .... و لكن نسيت ... ماذا تفعل !! و لتتدارك الموقف .... فتحت النت على موبايلها و الفيسبوك ... و وجدت حساب منير بالفعل، و الذي كاد أن يكون واقف نهائياً، غير نشط أبداً، و إنما هو حساب مفتوح فقط .... و بدأت ترسل له الصور مع التحيات و الاعتذارات .... و تشرح له انغماسها بالسياحة، فقد كان قصي حريص على أن يريها أكثر عدد ممكن من المعالم و الأماكن خلال فترة إقامتها المحدودة عنده.... و لذلك لم يكن لديها متسع كبير من الوقت ... و ها قد اقتربت عودتها و ستحدثه بكل تفاصيل رحلتها الشيقة و الممتعة ... و كل يوم ترسل له أكثر من صورة لها و لقصي و للأماكن السياحية ... و لكنها لم تتلقّى أي رد أو جواب أو تعليق و لا حتى لايك ؟ استغربت كثيراً .... و لكن قالت في نفسها على ما يبدو لا يفتح حسابه بعد أن تأخرت في الكتابة إليه لعله قطع الأمل ... لا بأس قالت لنفسها ... عندما أصل لدمشق .... أطمئن عليه و أشرح له موقفي ....
و جاء يوم العودة إلى الوطن، و كانت حياة متلهفة لهذه العودة، فقد اشتاقت الآن لبهاء و عائلته و بيتها و صديقاتها ... حتى جارها منير ..... و وصلت حياة إلى مطار دمشق الدولي، و كادت أن تقبّل الأرض و الجدران ... فيه ... فمهما سافر الإنسان و مهما رأى من بلدان جميلة تبقى بلده عروس كل البلدان و أجملهن ... فهنا الجذور و هنا المولد، و هنا الذكريات و هنا الاستقرار و هنا الممات، و لا شيء غير ذلك ... و بعد أن قبّلت حياة ابنها بهاء و عائلته، و ركبت في سيارة ابنها، و هم في طريق العودة سألته هل زار شقتها و اطمئن عليها، و سقى الزريعة و النباتات. قال لها : بالطبع يا أمي، لا يمكن أن أهمل طلب لك أو شيء يهمك ... ثم قالت له ... و هل شققت على جاري منير و زرته و اطمأننت عليه، فهو وحيد و لا أحد لديه مسكين، فقد راسلته في نهاية رحلتي إلا أنه لم يجيب، عسى أن يكون بخير ....
سكت بهاء قليلاً، و قال لها بحزن : مسكين .... لقد توفى وحيداً و لولا الجيران .... لم يشعر به أحد ... فقد أصابته ذبحة صدرية مفاجأة قتلته ... و جاءت الشرطة و فتحت الباب ... ثم قام الجيران بالواجب و صلّوا عليه و دفنوه ... و استدعوني وقتها ... و قمت بالواجب عنك يا أمي ... هنا انصدمت حياة لهذا الخبر الحزين، و هطلت دموعها دون أن تدري، ثم استدركت قائلةً : و لماذا لم تخبرني، فنحن نتكلّم معك كل يوم تقريباً ..؟؟؟.... قال لها بهاء : و لماذا أخبرك، لأنكّد عليك ... بالطبع لا أريد ذلك ... جار كبير و الله تذكره، رحمه الله و صلى الله و بارك ....
لم تتكلم حياة و لا كلمة حتى وصلت بيتها، و هي متعبة من السفر و من الخبر الذي أحزنها، فقد مات منير و هو متأكد أنه لا يهتم أحد لشأنه، و لا حتى هذه الجارة التي لمس منها القليل من الحنان و الإستيعاب ... و مضى عدة أيام على وصول حياة إلى بيتها، و بعد أن استراحت من هذه الرحلة، بدأت صديقاتها بزيارتها و التسليم عليها بعد قدومها من السفر ... و انشغلت حياة بهن مبدئياً ....
و في يومٍ، جاءت صديقتها سميحة لزيارتها منفردة في المنزل، و بعد أن شربت معها القهوة و جلست تحدثها بإستفاضة عن رحلتها لإيطاليا، و جمال إيطاليا، و عن قصي و أصدقائه ... و... و... و جاءت بالصور لتشاهدها سميحة، و حياة تشرح لها عن كل صورة ... و خلال المشاهدة أصبحت حياة تقول : لقد أرسلت هذه الصورة إلى منير ... و هذه ... و هذه .... و هنا نظرت سميحة باستغراب إلى حياة قائلةً : و من منير .... قالت لها : أنسيته جاري ؟..... جاري منير ؟ .... جار الهنا ... و هنا لم تستطع أن تمنع دموعها من أن تتدفق بغزارة، و كأنها حُبست مدة طويلة أو كانت تحاول أن تحبسها و تحبس مشاعرها معها .... هنا لم تتمالك صديقتها نفسها، فقالت لها بعفوية و استنكار : لتكوني حبيت هذا المجنون دون أن يدري أحد بك أم كنت تكابرين ؟؟؟ هنا نظرت حياة في عينين سميحة، و الدموع تملأ عيناها و وجهها .... و ابتسامة أسف على شفتيها ... و قالت : للأسف نحن الشعب العربي هكذا دائماً ... لا نظن إلا ظن السوء ... نعم أحببته، و شفقت عليه، و لكن ليس الحب الذي تظنّيه بين الرجل و المرأة ...؟؟ و أي حب هذا ... و هو فوق السبعين من عمره، و أنا في الخامسة و الخمسين .... لا حول و لا قوة إلا بالله ... لقد أشفقت عليه فعلاً بالنهاية، و خاصةً بعد أن فتح قلبه لي و أباح بكل مكنونات صدره ... مسكين لم يجد أحد يسمع له غيري ... فقد لمس فيَّ بعض الإنسانية، و لذلك تجرّأ و تكلّم، و أنا وعدته أن أبقى على اتصال به ... و لكني نسيت نفسي هناك، و أنا أتمتّع بالدنيا و هنا إنسان ينتظرني ... لأهتم به و لو بكلمة .. أو إشارة أو تحية ... إلا أني خذلته ... كما خذله كل الناس بما فيهم ابنه الوحيد ... كم هو شعور قاسي و مؤلم .... قد أكون أنا الخيط الوحيد الذي بقي له من الأمل .... جارة تهتم لأمره ..... فلم أكن بمستوى توقعاته ..... مسكين منير .... فقد شاركت في موته أنا أيضاً.... يا عزيزتي سميحة .... لم تكن علاقتي بمنير كأي علاقة بين رجل و إمرأة .... و إنما علاقتي به كانت علاقة إنسان بإنسان ..... فقط.
تمت