قصة قصيرة
لا عزاء للرجال
(2) الحلقة الثانية
لاحت في ذاكرة أحمد تلك المعلومة الطبية التي تفيد بأن الطفل إذا ارتفعت حرارته بشكلٍ مفاجئ و شديد قد يؤدي ذلك إلى أضرار جسيمة بأحد أعصاب الرأس و خاصةً العصب السمعي ... فهو لم و لن ينسى ابنة جيران أهله الحلوة و التي كانت بعمر العامين فقط .... بعمر طفلته الآن كيف فقدت السمع و بالتالي أصبحت خرساء أيضاً ... لأنها ارتفعت حرارتها ليلاً و لم تشعر أمها بها ... فأصبحت معاقة مدى الحياة ... إنها مأساة مرّت بلمح البصر في ذاكرته، و هو يوقظ زوجته من أجل طفلته التي تتقلّب بين يديه و قد اشتعلت حرارة ...... فكان صوته عالياً دون أن يدري .... فهو ليس على خبرة كافية في معالجة هكذا أمر ....
نهضت نهلة بسرعة، و هي مندهشة من ردة فعل أحمد المبالغ فيها كما شعرت ... و أعطت طفلتها خافض للحرارة، و بقي الاثنان ينتظران حتى انخفضت حرارة الطفلة و نامت أخيراً ... كان التعب قد أخذ ما أخذ من أحمد، فهو يتعب كل ساعات النهار و قضى ليلته ساهراً بجانب ابنته .... بينما نهلة، فلديها كل النهار و تستطيع أن تغتنم بعض الوقت من أجل راحتها، و لذلك لم تفكّر في راحته و عمله الطويل ... و ما أن غفت طفلتها حتى افتعلت خناقة من تحت أظافرها ... و هي تلوم و تتوعّد أحمد كيف صرخ عليها هكذا، و كيف أيقظها من سابع نومة، و كان الأمر لا يتطلّب أكثر من أن يفتح البراد و يعطي الطفلة ملعقة صغيرة من شراب خافض الحرارة ... فالأمر لا يستدعي كل هذه الضوضاء أو الصراخ ... و أصبحت تذكّره بكل سلبياته .... و كيف أنه لا يقيم وزن لمشاعرها، و هي من يتحمّل هذه العيشة المبهدلة و الضيقة ... فليذهب و ليشاهد كيف تعيش النساء ... حياتهن بكل بحبوحة و رخاء، و خاصةً من هن أبشع منها بكثير ؟؟....... كل ذلك في الساعات الأخيرة من الليل ... من أهم الساعات لدى أحمد ... فهو بحاجة ماسّة لقسطٍ من الراحة، ليمنحه ذلك النشاط و الحيوية في يوم عمل طويل و شاق ..... أما نهلة فلم تكن تفكّر إلا بنفسها و تضحياتها و صبرها عليه ..... لم تفكّر بأحمد و لا بتعبه المتواصل من أجلها و أجل طفلته ؟؟؟؟
و بقي أحمد صامتاً، لا يريد أن يتوسّع النقاش حتى لا ينتهي الوقت كله في جدالٍ عقيم ... لا يقدّم و لا يؤخّر ... ثم وضع رأسه على الوسادة و افتعل أنه نائم ..... و نهلة مستمرة بالكلام السخيف ..... و لكن كان النوم قد هجره و هو مغمّض العينين ... و قلبه المتعب صاحياً ..... صاحياً جداً، بل و متألم .... أهذه من اخترتها دون الفتيات كلها لتكون شريكة حياتي ... أهذه من قاتلت العالم من أجلها ....؟؟؟ لمجرّد أني غضبت من أجل طفلتي، و ارتفع صوتي لأول مرة في حياتنا الزوجية ... تقيم الدنيا و لم تقعدها .....؟؟؟ مضى الليل ... و مضى النهار بعمله الطويل، ليعود إلى منزله ليرتاح و يعوّض ليلة الأمس المضنية .... فلمّا وصل كانت نهلة قد برمت وجهها و لبسته على المقلوب ... فهي قررت أن تربيه ... من أول حياتهما ... هكذا الأفضل ... و إلا سيصرخ عليها على الطالعة و النازلة ... هكذا نصحتها أمها ؟؟؟... لم ترد عليه تحيته ... و لا أجابته عندما سأل عن طفلته لين، و لا حضّرت له العشاء ؟؟؟ فدخل بيته كالغريب !! اطمئن على لين، و تناول بعض اللقيمات في المطبخ ... و ذهب إلى غرفته لينام نوماً عميقاً .... مما أثار حنق نهلة، و لكنها لم تأتي بأي ردة فعل ... بل ستهمله تماماً ...
و مضى يومين آخرين، و البرود و الجفاء مستمر بينهما من أجل ردة فعل طبيعية صدرت عن أحمد ... و لا يستحق أحمد منها هذه المعاملة أبداً ... و بالرغم من ذلك، و في اليوم الثالث أراد أحمد أن يطرّي الأجواء، فيكفيه ما يلاقي خارج البيت من ضغوط ليعود و يجد أجواء مشحونة بلا داعي، و المرأة ترضى بكلمتين كما يقولون ..... فعاد و هو منشرح، و قد حمل بيديه بعض الفواكه، و كذلك نوعاً من الشوكولا التي تحبها نهلة جداً ... و أخذ يتقرّب من زوجته و يعتذر منها و يراضيها ..... و مضت الليلة على خير، و عادت المياه لمجاريها .... و لكن الطبع تحت الجلد كما يقولون .... و الأنانية و حب الذات ... و عدم التفكير بالآخر أمراض نفسية رهيبة، و خاصةً إذا أصابت المرأة ... فالمرأة جمالها بحنانها، و حبها و حضنها الدافئ، و صبرها و عقلها و قلبها الكبيران اللذان يستوعبان الرجل و الأطفال ... لتكون المنارة الحقيقة في الأسرة ... و لكن للأسف لم تكن نهلة هكذا ... فقد أصابتها، و استحكمت فيها تلك الأمراض ... و التي تصيب كل إمرأة لا تنظر إلا أمام قدمها فقط ..؟؟ ...
كانت نهلة تصاحب جارة لها تدعى عايدة من عمرها، و تشبهها في طريقة تفكيرها و أنانيتها و حبها لذاتها ... كانت تافهة و سخيفة جداً ... لا تفكر إلا بملذاتها الشخصية و متعها الآنية ... تحب المظاهر و الموضة و الأزياء و الزيارات و المطاعم و الكسل و الدلال و الغنج فقط .... و كانت مهملة لزوجها و أولادها، فلديها ولدين صبيين لا تجدهم إلا في الشارع يلعبون ... و كانت تقضي أوقات كثيرة مع نهلة ... تبثّها سمومها ... مع أن نهلة لا ينقصها سموم، فهي موجودة لديها بالأصل، و لكن بدأت الآن تظهر بعد أن تزوّجت و أمّنت على العريس و مستقبلها ... و لكن لم تجد ما كانت تريد و تحلم به، و صُدمت بالواقع و بوضع أحمد المادي الذي كان عند حد الكفاف و لا يتطوّر .... فلم يعد يعجبها الحال ... فكانت نهلة و جارتها ... يطبق عليهن مثل : وافق شن طبقه ؟ ... إلا أن زوج عايدة كان مقتدراً مالياً ... فهو لديه محل للألبسة النسائية ... في وسط شارع الحمرا بدمشق ... لم يكن هذا المحل إلا واجهة لعمله الحقيقي ... فقد كان صرّاف للعملات الأجنبية .... أي يعمل في السوق السوداء .... فهو حرامي من الدرجة الأولى بمرتبة الشرف ... الشرف الذي لا يملك ذرّة منه ... فقد كانت لديه علاقات نسائية كثيرة، و له جو خاص به لا أحد يعلمه ... و لا حتى زوجته التي كان يغدق عليها الهدايا و الفساتين و المجوهرات و المال حتى لم تعد ترى شيئاً آخر للأسف ... كان يخونها في كل يوم ... و يضحك عليها في كل ساعة ... و هي تحسب أنها تتنعم بالنعيم الذي يغدقه عليها ؟؟؟؟ و لا تعلم ماذا يفعل بالخفاء .... فقد كانت لديه علاقات مشبوهة و كثيرة مع مسؤولين كبار في البلد يساعدهم ...؟؟؟ و يساعدونه .... و يعمون الأبصار عنه ...؟؟
تطوّرت العلاقة بين نهلة و عايدة، و أصبحتا صديقتين متقاربتين جداً، فلا بُدَّ أن يشربا القهوة صباحاً مع بعضهما البعض، و يخططان لباقي اليوم .... و يقومان بمشاريعهما الخاصة ... من الصباحيات إلى الأسواق ......... و في يومٍ، قررت عايدة أن تزور زوجها في محله مع نهلة لاختيار بعض القطع النسائية و الملابس الجديدة التي أخبرها عنها زوجها .... وضعت نهلة طفلتها لين عند أمها .... و قالت لأحمد بأنها ستذهب مع جارتها عايدة لزيارة محل زوجها في الحمرا ..... كان أحمد يعلم أن جاره لديه محل ألبسة نسائية، و هذا كل ما يعرفه ؟؟؟... فلم يمانع و كان الأمر طبيعياً جداً ..... لم يكن ميّار زوج عايدة .... يعرف نهلة جيداً، فهو بالكاد قد لمحها مرة أو اثنتين من بعيد .... و دخلتا المحل .... لم يكون غير ميّار و بائعتين لديه يعملان في المحل .... فرحّب بزوجته و جارتها .... و علقت عيناه على وجه نهلة الذي كان يضج جمالاً و حيوية .... فلم يكن منتبهاً قبل اليوم بأنها جميلة هكذا ... و ما أن بدأ بالكلام و الترحيب و التأهيل و التسهيل، حتى دخل المحل رجل ضخم يبدو أنه من عليّة القوم ؟؟ و يتبعه مرافق ...... و ما أن وقعت عينا ميار عليه، حتى تهلل وجه و صرخ يا هلا : بأبو صافي ... و بخطوة واحدة أصبح أمامه .... كما الخادم للسيد .....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
يتبع