قصة قصيرة
يوميات عائلة مستورة
(3) الحلقة الثالثة
تخرّج زهير من الجامعة مهندساً مدنياً بدرجة الممتاز، فكان قرّة عيني أمه و أبيه و بهذه المناسبة أقامت له والدته مولداً و احتفالاً كبيراً جمعت به نساء العائلة و الحارة كلها ... فكان زهير محط إعجاب و عريس مطلوب لكل فتاة، فهو المهندس و المتعلّم المثقّف الخلوق و المهذب المعروف بأخلاقه و بأخلاق عائلته المستورة ... فكل من كان لديها ابنة أو قريبة أو فتاة مناسبة أخذتها معها لتفت نظر أم زهير لها .... و لكن لم تكن الحسابات هكذا، فقد كان على زهير أن يخدم خدمة العلم أولاً و من بعد ذلك أن يحصل على وظيفة أو عمل و يدخر قليلاً من المال ثم يفكّر في الزواج، فمشوار الشاب السوري مشوار طويل و شاق و ريثما يتزوج يكون قد طلعت عيناه طبعاً هذا بالنسبة للناس من الطبقة الوسطى ... و لكن الذي حصل في هذا المولد و الاحتفال هو العكس تماماً، فقد أُعجبت خالدة إحدى قريبات جارتهم في الحارة التي طلبت من أم زهير بأن تستضيفها معها لأنها ظريفة جداً، و لكن الحقيقة أن هذه القريبة كانت تخطب لابنها الموظف في وزارة المواصلات بعد تخرُّجه من الجامعة قسم اللغة العربية، و وجد وظيفة فوراً طبعاً بالواسطة و لم يكن لديه خدمة علم لأنه وحيد أبويه ... كانت خالدة في السنة الثالثة في كلية الاقتصاد و باقي لها سنة واحدة للتخرُّج من الجامعة .... و حصل النصيب و خُطبت خالدة بعد المولد على أن يتم القران و العرس بعد عام واحد تكون خالدة تخرّجت من الجامعة و هيّأ العريس نفسه للزواج ....
زادت أعباء أبو زهير المالية ... فقد أصبح لديه تكاليف إضافية ... فذهاب زهير إلى خدمة العلم يحتاج إلى مال ... و خطوبة ابنته خالدة و تجهيزها كعروس أيضاً يحتاج إلى مصاريف إضافية ... كان المجتمع الدمشقي يسير بخطوات متسارعة و خطيرة نحو التحوّل إلى مجتمع استهلاكي بامتياز، مما دعا أفراد المجتمع إلى السعي ليلاً و نهاراً لمجاراة هذا الوضع الجديد، فما كان يعتبر كمالياً سابقاً و لا ضرورة له أو من المظاهر أصبح من الضروريات ... فانتشر الفساد في جميع أجهزة و مؤسسات الدولة و تفشّ تفشّياً رهيباً ... من شرطي المرور و إلى أكبر المناصب ... فانتشرت الرشاوى و الواسطة و تبادل الخدمات بشكلٍ مخيف ... و بدأ يتلاشى شيء اسمه تكافؤ الفرص .... و انتهى عهد الرجل المناسب في المكان المناسب، و أصبحت أغلب الأموال المتداولة أموال حرام أو فيها شبهة .... و أضحى مبدأ من معه قرش يسوى قرش ... هو المبدأ السائد فعلياً على أرض الواقع ... لذلك اتجه الناس نحو المظاهر الخادعة و المزيفة أفواجاً أفواجاً .... ففتحت شركات السيارات أبوابها للشراء بالتقسيط ... فمن لم يكن لديه سيارة أصبح لديه و من كان لديه واحدة أصبح يقتني اثنتان .... و أخذ الشباب يقلّدون المشاهير تقليداً أعمى ... و أصبح لماركات الملابس المشهورة وكالات و فروع في دمشق و سوريا كلها ... حتى بعض الوكالات التي ليست مشهورة و لكن تقلد الشهيرة في الموديلات و الجودة و الأقمشة .... و كلها بأسعار غالية جداً تفوق مقدرة المواطن العادي .... و خاصةً إن كان شريفاً و عنده مبادئ و قيم تجري مجرى الدم في عروقه، و هم أضحوا قلائل جداً .... و لكن لسوء حظ أبو زهير أن يكون منهم ... فقد كان كالغريب بين الناس ... و أخذت هذه المظاهر و الصور المخادعة للحضارة تزحف نحو بيته .... رويداً رويدا و بالرغم عنه و عن محاولاته الجاهدة لدرء و ردع هذا التيار الجارف .... فقد وضع زهير في قطعة عسكرية نائية و يحتاج إلى واسطة و بعض المال ... لنقله و وضعه تحت يد رئيس يرحمه في الإجازات من أجل أن تراه أمه و يرى هو أهله و يقضي خدمته باحترام ....
و خالدة اقترب عرسها و هي تحتاج ككل عروس لجهاز يليق بها و بأسعار السوق المرتفعة و خاصةً أنها تريد أن تدخل لبيت زوجها أيضاً باحترام ... أما موفق فهو يلح الليل و النهار، يريد جوالاً من النوع الذي يحمله صديقه فقد قهره به .... و ابتسام تبكي ليلاً نهاراً أيضاً تريد أن تجري عملية تجميل لأنفها البشع، بل الذي هو سبب كل البشاعة و القبح الذي فيها و إن لم يلحقها أهلها بالعملية ستتولد لديها عقدة بقياس أكبر بطيخة في سوريا كلها ... و أخذت الأنانية و حب الذات تجد لها مكاناً بين أفراد هذه العائلة التي كانت يضرب بها المثل بالأخلاق و القيم و الإيثار لبعضهم البعض ....
كثرت المطالب .... و الموارد قليلة ... فقد ركب الحزن و الهم أبو زهير، لا يعلم كيف يلبي حاجات أولاده المتشعّبة و الكثيرة و الملحّة ........ و في أحد الأيام خطرت له فكرة أوحاها له صديقه الذي يعمل مثل عمله تماماً، فكان للمصرف صندوقاً آخر ... عليه موظف طلّق أخلاقه و قيمه بالثلاثة .... نتيجة ضغوطات الحياة المتلاحقة عليه و كان يدعى أبو ظافر.... فأخذ يختلس من الأموال التي في عهدته ثم يدّعي بأنه أخطأ الحساب مع العملاء، فيهرع الموظفين و التجار المتعاملين مع المصرف و بتأثير أحد أصدقائه في الأقسام الأخرى لجمع له المبالغ الناقصة .... و كل فترة يتعرّض لهذا الخطأ ... يا سبحان الله .... أما أبو زهير لم يتعرّض لمثل هذا الخطأ و لا مرة، بل على العكس كان منظماً و حريصاً و حذراً لأن أي خطأ سيدفعه من جيبه .... و هذا ما كان يزعج صديقه و زميل العمل الصندقجي الآخر أبو ظافر ؟ و في مرة من المرات و بعد انصراف الموظفين عند انتهاء الدوام و العمل في المصرف... مشى زميلا المهنة و العمل مع بعضهما، و هم في طريقهما إلى بيتهما ظهراً، فقال أبو ظافر لأبو زهير : ما لك يا صديقي أراك هذه الأيام مهموماً حزيناً جداً و كأن نهاية العالم وشيكة، هوّن عليك فلكل شيءٍ حل ... قال أبو زهير : خلّيها لله يا زلمة و الله راح طق ... ما عم يكفّي راتبي لشي .... و الولاد عم تكبر و تكبر طلباتهم ... يلي ما عم تخلص و الله قلبي محروق على هالمرا يلي عم تتعب ليل نهار معي و عم توفر علي القرش و القرشيين مشان تساعدني و الولاد يلي زعلان أكتر من يلي رضيان ؟؟؟؟
حاسس بالعجز و القهر ...؟ و الله راح يفرط قلبي يا أبو ظافر، العين بصيرة و اليد قصيرة ..... قال أبو ظافر : هوّن عليك يا رجل ... صغّرها بتصغر و كبّرها بتكبر ... و أنت كمان يعني لا تواخذني ... و ما عم تتحرّك ... منوب ... و فهمك كفاية ....
سكت أبو زهير ... ثم غيّر الموضوع بسؤال أبو ظافر عن طبخته التي تنتظره هذا اليوم ... و أصبح الكلام عن الطعام يأخذ مجراه في الحديث و خاصةً في هذا الوقت ... وقت الظهيرة و العودة إلى المنزل و الحلم بوجبة غذاء دسمة .... ثم افترق الصديقان و توجّه كل واحد منهما نحو بيته .... و عندما أقبل الليل و أسدل ستاره و أُغلقت الأبواب .... و أخذ كل إنسان مضجعه .... و منهم أبو زهير ... الذي أخذ يتقلّب في فراشه و قد نال القلق منه و هو يفكّر بكلام أبو ظافر جدّياً .... و أخذ يقلّب الأمر ... هكذا و هكذا .... ثم تذكّر أنه ليس في كل مرة تسلم الجرة فتقع على رأسه هذه المرة .... و يسجن و يكون عوضاً أن يكحّلها عماها ..؟؟ و أصبح يتصوّر كل الصور السلبية التي يمكن أن يتعرّض لها من قلة القيمة و الاحترام الذي عُرف بهما بين الناس ...و أخذ ضميره يؤنّبه لهذه الأفكار الشيطانية .... و شعر بمراقبة الله له في هذه اللحظة .... فهو يراه الآن و يرى ما يُحيك في صدره و عقله .... لا ... لا ... و ألف لا.. لن يغضب ربه ...أبداً و هو من كان يجاهد طوال عمره ليبقى مطيعاً لأوامره مجتنباً نواهيه ... لن يضعف ... أبداً مهما كان الحال و الظرف ..... و أخذ يبكي بكاءاً يشبه النحيب الصامت .... حتى شعرت ناجية ... و هي نائمة بجانبه باختلاج زوجها اختلاجاً بعد منتصف الليل ...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
يتبع