الارشيف / ثقافة و فن

يوميات عائلة مستورة - الحلقة السابعة و الأخيرة

قصة قصيرة


يوميات عائلة مستورة


(7) الحلقة السابعة و الأخيرة

 

خرج أبو عمر من غرفة العناية المشددة بعد أن اطمئن على أبو زهير ... و على وجهه علامات الأسى و الحزن لما أصاب صديق عمره ... و وجد أم زهير مستبشرة مبتسمة حتى أن الفرح يظهر في عينيها ... و هي تنظر له و تحمل بيدها كيس أسود ... فاقترب منها ليودِّعها و يسألها إن كانت تحتاج شيء ... أي شيء ... فلا تحرمه هذا الفضل، فنظرت له أم زهير و هي غير مصدّقة ما يجري لها ... و مع هذه العناية الإلهية التي تحيط بها و بأسرتها ؟؟؟... و قالت : أرأيت يا أبو عمر بما كافئنا الله..؟ على إخلاصنا و صبرنا و الرضا بقضائه ... ها هي الأمانة و أموالك رُدّت إليك لأنك إنسان طيب تخاف الله في الناس و رضيت بما قُدِّر لك ... تفضّل فقد جاء بهذا الكيس ذلك الشاب الذي أرسله الله لينقذ أبو زهير البارحة ... أتعرف ما هي مكافأتي ؟؟.... هذه الفرحة التي أنا فيها الآن .... نعم، الفرحة رزق من الله، مثلها مثل المال و أكثر ... فلقد عاد زوجي إلى الحياة ... و ذهب عنه ما كان قد يهمّه و يتعسنا جميعاً ... أشكر الله ... أشكر الله ..

أخذ أبو عمر ماله الحلال ... و ودّع أم زهير .... و ذهب فوراً إلى دائرة المحاسبة في المشفى ليدفع الحساب كاملاً عن أبو زهير ... بل أوصاهم بأن يأتوا له بطبيب مختص يشرف عليه يومياً مع الأدوية اللازمة و كل ما يتعلّق بمصاريف المشفى المتعلِّقة بأبو زهير إلى أن يخرج سالماً إلى بيته .. فهذا أقل ما يمكن أن يقدّمه لصديق عمره..... و غادر المشفى مرتاح البال و الضمير .... بقي أبو زهير عدة أيام في المشفى دون أن يذكر شيء لزوجته ناجية عن موضوع يشغل باله و لكنه مؤجّل ... و هو يتعلّق بابتسام ؟؟ حتى خرج من المشفى إلى بيته و هو يتماثل للشفاء و يحتاج بعض الأدوية و الراحة فقط ...

و في الليلة التالية بعد خروجه من المشفى و قد هدأ البيت، فالكل أوى لفراشه .... و قبل أن تنام ناجية سألت أبو زهير أيريد شيئاً و لماذا هو صاحي، فالنوم أكبر راحة لجسمه و قلبه .... قالت له ذلك مستغربة ؟ ... فقال لها أبو زهير : كيف ابتسام ... و كيف أحوالها ؟ و الحزن و القهر بادٍ على محيّاه .... اندهشت و استغربت ناجية لهذا السؤال ليلاً ... و تخصيص ابتسام بالسؤال ...؟؟ و لماذا ابتسام بالذات !! ... قالت ناجية : ابتسام بخير و بتبوس يدك يا أبو زهير ... ما بك هل هناك شيء لا أعرفه ؟.. قال لها نعم، يا ناجية أريد منك أن تفتحي عينك جيداً و خاصةً على البنات .... و قصّ عليها ما حدث له يوم تعرّض للذبحة الصدرية ..... بعد أن رأى ابتسام و هي تمر بجانبه و لم تراه .... و هو يراها بصورة لم يتوقّعها نهائياً، فانهار مغشيّاً عليه ..... استدركت ناجية الكلام فوراً : و قالت و لا يهمك هذا الأمر.. موضوع أعرف كيف أعالجه تماماً ... أنت لا تشغل بالك أبداً، فهذه أفعال صبيانية و ولدنة ... تأكّد أني أنا من ربّيت و أعرف ماذا ربّيت ... لا تخف و ضع يديك و رجليك بماءٍ بارد و نم و ارتاح و غداً لناظره قريب ... و سوف ترى ما يجبر خاطرك و يسعدك .... لا تخف الموضوع عندي، و سأعالجه على الفور يا حبيبي ....

 

 

نام أبو زهير و هو مطمئن بأن الموضوع بأيدي أمينة.. بيد إنسانة عاقلة و حكيمة و أغلى الناس إلى قلبه .... أما أم زهير فقد استدارت في فراشها و هي تمثّل أنها نامت .... و لكن النوم هجرها هذه الليلة و أخذت الأفكار و الأوهام و القلق يستبد بها من كل اتجاه ... و هي تفكّر إلى مدى علاقة ابنتها بهذا الشاب الصغير ...؟؟ و كيف فعلت ابتسام ما فعلت، فأين ذهب تعبها في تنشئتها التنشئة الصحيحة، هكذا رمت جهودها على الأرض ؟؟ كم كانت حزينة منها و عليها .... و لكن المهم هو معالجة الموضوع بكل حكمةٍ و تروّي .... و ما أن بزغ الفجر ... قامت ناجية لصلاتها و أدعيتها التي تتمسّك بها كل يوم، فلولا الله لا حول و لا قوة لأي إنسان ..... كان اليوم يوم سبت و هو يوم عطلة .... و قام كل فرد من العائلة لمشاغله ... بعد اجتماعهم على فطور الصباح كما عادتهم ... ثم ذهبت ابتسام لغرفتها لتستأنف دراستها فهي تحضّر للشهادة الثانوية الفرع الأدبي و تحتاج للكثير من الحفظ .... فلحقت بها أمها ... و دخلت غرفتها و أغلقت الباب وراءها و جلست بالقرب منها ... و سألتها أولاً عن دراستها و إن كانت تحتاج شيئاً ... استغربت ابتسام تصرُّف أمها ... و شعرت أن على لسانها كلام لا تعرف كيف تبدأه !.. فضحكت ابتسام و قالت لأمها : ما بك يا أمي، تكلّمي تكلّمي أرى على لسانك كلاماً ؟ .... قالت ناجية : نعم ... أريد أن أسألك سؤالاً ... ما هو رأيك بوالدك : استغربت ابتسام أكثر، و قالت : أبي ... أغلى إنسان على قلبي و أحنُّ أبٍ في الدنيا كلها .... الله يخليلي ياه، و الله من وقت ما صار فيه ما صار و أنا أشعر بالتعب و القلق كثيراً حتى اليوم بدأت أرتاح قليلاً لاستقرار وضعه فقالت ناجية : أتردّين له هذا الحب و الحنان و العطف و التضحية بالإساءة ؟؟ ... صمتت ابتسام و شردت قليلاً ... ثم قالت ... ما الموضوع يا أمي، أرجوك أنا حائرة فقد لاحظت في عيني أبي عتب كبير كلّما نظر لي و هو في مرضه ... في المشفى و حتى هنا ؟؟.. كان يشيح بنظره عني ... و كنت أستغرب هذا كثيراً ... أرجوك يا أمي، ماذا حدث ! لماذا أبي ينظر لي هذه النظرة ... و قصّت ناجية ما سمعته من زوجها عنها .... و ما حدث لأبيها فور مشاهدتها و هي تسير مع شابٍ غريب وسط الشارع يضحكان و لا يشعران بأحد حتى مرّت أمام والدها و لم تراه و هو يراها فلم يتحمّل هذا المشهد ....

هنا ... شعرت ابتسام و كأنّ صاعقةً أصابتها ... و تمنّت لو انشقت الأرض من تحتها و ابتلعتها و لم تقف في هذا الموقف ... و لم تسمع ما سمعت .... أحدث لوالدها ما حدث من تحت رأسها ... يا ليتها ماتت قبل ذلك .... انصبغ وجهها بلون التوت خجلاً، و انهمرت دموعها انهمار المطر في يوم عاصف ... و قالت لأمها ... يا ليته قتلني و لم يحدث له ما حدث ... صحيح يا أمي أنا خرجت يومها مع ذلك الشاب، و هذه هي المرة الثانية فقط و هو أخ صديقتي تمارا .. كثيراً ما حدّثتني عنه و عن ظرافته و خفّة دمه مما أثار إعجابي حقاً، و في يوم لحق بي و أعطاني ورقة مكتوب فيها أنه يريد أن يتعرّف عليّ في مكانٍ بعيد عن الحارة فقط لنتمشّى قليلاً للترفيه عن أنفسنا قبل أن ننقطع من أجل الدراسة ... و أقسم بالله يا أمي، لم أكلّمه إلا هاتين المرتين ... و في كل مرة نصف ساعة لا أكثر، فقد دعاني الفضول و التقليد إلى هذا التصرُّف الغير لائق بي و بأسرتي .... سامحيني يا أمي ... لم أكن أقصد الإساءة لك و لوالدي ... ماذا أفعل ؟؟؟ ساعديني .... أعدك أن لا أراه مرةً ثانية ... أعترف أننا صغار على هذا الموضوع، و عليّ أن أتمم دراستي و أهتم بمستقبلي و لا أغضب الله و أهلي مني .... أعتذر منك و من أبي .. فقط قولي لي أنك قبلت و أنك ستكلمين والدي بأن يسامحني ... أرجوك و أتوسّل إليك ..

 

 

سكتت ناجية و قالت : الآن اهتمي بدروسك .. فعندك شهادة يجب أن تحصلي عليها، فهي ستحدد مستقبلك ... و سأحاول أن أكلّم والدك كل يوم ليصفح عنك و يرضى عليك ... من أجل أن توفّقي بالامتحانات ... و خرجت ناجية من غرفة ابتسام و هي مرتاحة البال ... فقد علمت أن الموضوع لا يتعدّى القليل من التهوّر و الولدنة ... قاتل الله شيطانها ..... و مرّت الأيام ... و نسي أبو زهير و زوجته و ابتسام هذه الحادثة التي لم يعرف بها أحد غيرهم ... و كأنها ما حدثت و أُغلق الموضوع نهائياً .... و تحجّبت ابتسام بعد أن نجحت بالثانوية العامة و حصلت على مجموع عالي جداً لتُسعد والدها الطيّب و أمها الحنون، و تردُّ لهم بعض من الفرحة التي سلبتها منهم في يومٍ من الأيام .... و انتسبت إلى الجامعة كلية الإعلام قسم الصحافة ... و استمر أبو زهير بالعطاء و أم زهير بتسيير حياة العائلة على أحسن وجه ... فقد استقر وضع خالدة الزوجي و أنهى زهير خدمة العلم و حصل على فرصة عمل في السعودية ... و ضمن اختصاصه كمهندس، فقد عمل في شركة كبيرة جداً و مرموقة في التعمير و الإنشاءات و براتب مغري .... أما باقي الأولاد فقد استمروا في دراستهم، بعضهم تفوّق و بعضهم تعثّر قليلاً ... و لكن المهم تعلّموا جميعاً، منهم من أكمل دراسته الجامعية و منهم من عمل بعد حصوله على شهادته الثانوية و منهم من تزوّج و منهم من ينتظر .... و تقاعد أبو زهير عن العمل نهائياً بعد أن طالبه أبناءه بذلك، و أصبح دورهم الآن بالإنفاق و الرعاية لوالديهما الغاليين .... و نعم أجر العاملين ... فلم يضيع الله عملهم و تضحياتهم ... و قبل ذلك طاعتهم و حبهم لله و رسوله و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و اتقاء الله في تربية أبناءهم ....

 

 

و في يومٍ ... أرسل لهم زهير تأشيرة و طلباً لزيارته في الأراضي المقدّسة لقضاء مناسك العمرة و الحج بعد أن تزوّج و استقرت أموره هناك ..... فكان هذا أقصى ما يتمناه أبو زهير و أم زهير ... بأن يزورا بيت الله الحرام فيكون خير أعمالهم خواتيمها ... و قد حصل زهير على هذه التأشيرة بصعوبة ... فقد وصلت العائلة لعام 2011 و قد قامت الدنيا و لم تقعد في سورية ... و كم خاف أبو زهير و زوجته أن يموتا قبل تحقيق حلمهما الوحيد في هذه الحياة كلها ... و لذلك فقد طلب زهير لهما التأشيرة و الفيزا قبل أيام الحج بعدة شهور و كفل وجودهما بالمملكة .. و كان هو من المهندسين الماهرين الذين أشرفوا على الأبنية الحديثة و الساعة التي أُقيمت مؤخراً في أرض الحرم المكّي فكان له هذا الاستثناء...... فأخذ أبو زهير و زوجته يحضّرون نفسهما لهذه الرحلة و هذا الحلم .... و قبل يوم السفر بأيامٍ قليلة ... كان أبو زهير يتناول الفطور هو و زوجته لوحدهما هذه المرة في أرض ديار بيتهما العربي العريق .... بعد ذهاب الأولاد كلٌ إلى أشغاله .... و إذا يهبط من السماء عليهما مباشرةً صاروخ حربي لينغرس في أرض الديار بين أبو زهير و أم زهير ... فتعانقت أرواحهما سويةً و بنفس اللحظة... و صعدت إلى السماء عند بارئها .... لم يذهبا إلى الحج ليغسلا ذنوبهما ... كما أرادا .... و لكن غسلتها دماء الشهادة كما أراد الله لهما .... لا أحد يدري لعلهم ممن قال بهم الله تعالى في كتابه العزيز : (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً  )) صدق الله العظيم.

 

تمت 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

قد تقرأ أيضا