توبة ربيع
قصتنا هذه تتحدث عن شابٍ اسمه ربيع، عمره خمس وعشرون سنة، يحب الدنيا ومباهجها، وزينتها ومفاتنها، ويرى أنَّ الله تعالى خلق الدنيا ليستمتع بها الإنسان كما يشاء، فليس هناك حرامٌ وحلال، بل كل شيء حلالٌ مباحٌ ما دام من صنع الله.. وكثيراً ما يردد قول الشاعر:
فإن قالوا حرامٌ قل: حرامٌ
ولكنَّ اللذائذَ في الحرامِ
والد ربيع رجلٌ ثريٌ، لديه من المال ما يكفي لإعالة قريةٍ، وقد وضع ثروته كلها بين يدي ولده الغالي ليستمتع بها كما يشاء.
لم يخيِّب ربيع ظنَّ أبيه، فألغى من قاموسه كل الكلمات التي لا يحبها، ككلمة حرام أو ممنوع أو محظور أو مستحيل.. وتذوّق من متع الحياة الدنيا ما تشتهيه نفسه، فثيابه.. عطره.. ساعته.. حذاؤه.. جوّاله.. كل هذا من أشهر وأغلى الماركات العالمية، وكلما رأى ربيع موديلاً جديداً لسيارةٍ فاخرةٍ، باع سيارته واشترى السيارة الجديدة.
عن ماذا أحدثكم أم عن ماذا؟! عن الخدم والحشم الذين يتسابقون لتلبية أوامر ربيع، أم عن بلدان العالم التي طار إليها وأنفق فيها أموالاً طائلةً، أم عن الفتيات الجميلات اللواتي تعرّف عليهنّ وذاق طعم جمالهنَّ دون أن يرتجف ضميره من سوء ما عَبَّ وغَبَّ!
قد يقول البعض: هنيئاً لربيع.. وماذا يريد الإنسان أكثر من هذا في حياته؟!
مالٌ وجاهٌ وملذاتٌ وسعادةٌ لها أولٌ وليس لها آخر!
ولكن، هل شعر ربيع بهذه الهناءة والسعادة التي يحسده عليها الآخرون؟!
سنرى ذلك في الأسطر القليلة القادمة.
* * *
عاد ربيع من رحلةٍ سياحيةٍ أمضاها في سويسرا، ولم يترك مكاناً جميلاً في ذلك البلد إلا وزاره.. وكان يتوقع أن يكون سعيداً بعد هذه الرحلة التي يشتهيها كل الناس، ولكنَّه لم يكن كذلك.. وها هو ذا بعد قدومه بيومٍ واحدٍ يضطجع في فراشه، وقد كلح وجهه، وتسمّرت عيناه، وعاد إليه انقباض الصدر، واستولت عليه الكآبة والتذمر والتململ من كل شيء.
قام ربيع من سريره، وتناول حبةً صغيرةً ثم عاد إلى سريره وتمتم:
- اللعنة على الدواء.. اللعنة على كل شيء..
اضطجع في سريره وشرد ذهنه وهو يفكر في حاله ومآله..
لقد زار منذ مدةٍ طبيباً نفسياً فسأله الطبيب: ما الذي يزعجك يا ربيع؟
أجابه: كل شيء..
دُهش الطبيب، ورفع حاجبيه متعجّباً وقال: لماذا يا ربيع؟! أنا أعرف أنَّ أمورك جيدةٌ من كل النواحي، ولا أظنُّ أنَّ عندك ما يزعجك! هذا ما أعرفه على الأقل! فلماذا يزعجك كل شيء؟!
حقاً.. لماذا يزعجه كل شيء، والمفترض به أن يكون سعيداً بكل شيء!! فلا شيء يشتهيه إلا ويحصل عليه.. ومع ذلك فإنه لا يشعر بطعم السعادة.
لم يعد يسعده المال الذي يملأ جيوبه.. ولا اللباس المميّز الذي يلبسه.. ولا الطعام اللذيذ الذي يتناوله.. ولا الجميلات اللواتي تعرّف عليهن.. ولا البلدان الرائعة التي يزورها.. تساءل مستغرباً تماماً كاستغراب الطبيب: ما الذي يسعدني إذاً؟!
سؤال لم يعرف ربيع جوابه حتى الآن..
* * *
خطر في باله أن يحتسي الخمر علَّها تخفف شيئاً من تعاسته.. نهض من فراشه بصعوبةٍ، وتوجه نحو ركنٍ في الغرفة، وضع فيه باراً صغيراً مليئاً بأنواع الخمور.. فتح الثلاجة ونظر في الزجاجات المحرَّمة المصفوفة.. بدت له رغم اختلاف أسمائها وألوانها وأثمانها نوعاً واحداً من الزجاج الغبيّ، لا أكثر ولا أقلَّ!
أغلق الثلاجة بنزق، وهو يردد: اللعنة على الخمر..
عاد إلى سريره، وهو يسبُّ تلك الخمور التي لم يحصل من شربها إلا على لذةٍ مؤقتةٍ، لا تلبث أن تزول، لتخلّف وراءها ألماً يدقُّ في رأسه كالمطارق، وقيئاً لا ينتهي إلا باستنزاف الماء الأصفر من معدته..
* * *
فتح جوّاله يريد أن يتصل بنتالي، علّها تخفّف عنه بعض ما يجده.. ولكنه تساءل: ماذا ستفعل لي نتالي؟ لا شيء.. لم تستطع يوماً أن تهبني السعادة!
تابع يقول: إذاً سوزي.. ولكنَّ سوزي لا تختلف بشيءٍ عن نتالي..
إذن فوفو.. نونو.. توتو.. لولو.. بانة.. لانة.. فلانة.. علتانة!!!
أغلق جواله وهو يدمدم: نساء الدنيا كلهنّ نسخةٌ واحدة.. نسخةٌ دميمةٌ عديمة، لا خير فيها ولا فائدة منها!
* * *
سرح به خياله نحو ذلك اليوم الذي كان يتمشّى بصحبة صديقته لولو..
لفت نظره شابٌ بسيطٌ ومعه فتاة محجّبة، يبدو من الخاتمين اللذين يتوسطان أصابعهما أنهما مخطوبان.. كانا يجلسان على حافة إحدى الصخور يأكلان البوشار، والفرح يقفز من عيونهما..
تساءل بألم: ترى: لماذا يشعران بالسعادة، بينما أفتقدها أنا.. وهما فقيران وأنا غني؟!
اختلّت لدى ربيع الموازين.. كان يعتبر الزواج نوعاً من الخبل، لأنه يأسر الإنسان في نمطٍ وروتينٍ معيّنٍ لا يحيد عنه، كمن يأكل كل يوم نفس الطعام! وربيع يكره الروتين ويحب الجديد والتجديد.. يحب أن ينوّع كل يوم أكلةً جديدة..
لا يدري ربيع لماذا تغيرت نظرته اليوم.. شعر أن حال ذاك الشاب الخاطب البسيط الفقير الذي كبّل نفسه بالروتين أفضل من حاله بكثير.
* * *
ازداد انقباض صدره، فقرر الخروج من المنزل..
فتح خزانته المليئة بالثياب.. كلها موضة السنة.. في كل فصل من السنة يغير ربيع محتويات خزانته من بابها إلى محرابها، كما يقال.
بدأ يخرج الثياب من الخزانة، وينظر إليها بقرفٍ، ثم يرميها على السرير.. بدت له ككومةٍ من القمامة، تنتظر عامل التنظيفات ليعبّئها في حاويته القميئة..
أشاح بوجهه عن الثياب، وقرر أن يخرج بلباسه الذي يرتديه..
تذكر أحد أصدقائه البسطاء..
كان يضحك منه لأنه لا يملّ من لبس نفس البنطال والكنزة.. ولكنه اليوم على يقينٍ بأن ذلك الفتى أحسن حالاً منه وأكثر سعادةً.
خرج من باب الفيلا الكبيرة..
نظر إلى سيارته الفاخرة دون مبالاة، وقرر أن يتمشى في الهواء الطلق.
مشى الهوينى وأسئلةٌ كثيرةٌ تحيّره وتزيد في انقباض صدره:
- إذا كان المال لا يجلب السعادة، فما الذي يجلبها؟
- أين هي السعادة؟ وكيف أحصل عليها؟
- لو كان بإمكاني أن أشتريها بكل ما أملكه لما ترددتُ لحظةً واحدة!
وصل إلى مسامعه صوتٌ شجيٌّ.. ما أجمله وما أبدعه..
إنه قرآنٌ كريم..
بدأت نفسه تنشرح، فاقترب من مصدر الصوت.. إنه مسجدٌ كبيرٌ تنبعث منه تلك التلاوة الخاشعة المهيبة..
لم يستمع ربيع قبل اليوم للقرآن الكريم..
كان إذا فتح المذياع أو التلفاز وسمع أحدهم يتلو بضع آياتٍ منه غيّر الموجة.. فما الذي يجذبه اليوم لاستماع القرآن والتمعّن بكلامه؟!
كانت باحة المسجد تغصّ بالمصلين..
تساءل عن سبب هذا الازدحام فتذكَّر.. إنه رمضان.. وهذه صلاة التراويح..
لا يعني شهر رمضان المبارك لربيع شيئاً.. فهو وعائلته لا يصومون ولا يصلون.. وأيام رمضان بالنسبة لهم كباقي أيام السنة.. لكنه الآن ينغمس في شعورٍ مختلف..
ظلَّ واقفاً خارج المسجد يستمع لتلاوة القرآن الكريم..
اللهَ الله.. ما أجمل هذا الصوت! وما أعظم هذا الكلام!
طغى عليه شعورٌ بالراحة النفسية لم يتذوقه قبل اليوم..
لم يعرف ربيع أيَّ سورةٍ يقرأ الإمام، ولم يفهم كثيراً ماذا تعني الآيات.. كل ما يعرفه أنه ارتاح نفسياً.. وأنه شعر بيدٍ تجذبه لدخول المسجد والانخراط مع جماعة المصلين..
* * *
لم يسبق لربيع أن دخل مسجداً من قبل..
خلع حذاءه ودخل.. ثم توجه نحو الموضأ رغم أنه لا يعرف كيف يتوضأ.. صحيح أنه درس ذلك يوم كان طالباً في المدرسة، ولكنه لم يمارسه في حياته مرةً واحدة..
رأى رجلاً يتوضأ فقلّده.. ثم وقف مع المصلّين..
كان الإمام يقرأ من سورة الحديد قول الله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، بُشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم).
هاهنا الكنز الثمين المفقود: إنه النور الذي يبحث عنه ربيع.. النور الذي سيضيء طريقه ويمنحه السعادة، ويردُّ إليه نفسه الضائعة الباحثة عن السكينة والأمان.
ردّد في سره: اللهم اجعلني من المؤمنين..
في الركعة الثانية قرأ الإمام قول الله تعالى: (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق).
شعر ربيع وهو يسمع هذا الكلام بجلال الله وعظمته.. ولأول مرة في حياته بكى حياءً من الله وخجلاً منه.. ولأول مرة في حياته أيضاً تذوّق طعم السعادة الذي يبحث عنه..
أنهى الإمام الصلاة، وبدأ يعظ المصلين.. فجلس ربيع مع من جلس يستمع للموعظة..
كان الإمام يتحدث عن التوبة، وكان يقول: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وإن الله يفرح بتوبة العبد العاصي، وإنه غفارٌ لمن تاب وأناب، ومهما كثرت ذنوب العبد وعظُمت، فرحمة الله أعظم وأكبر.
أنهى الإمام حديثه بذكر قصة صغيرةٍ قال فيها: لما حضرت الوفاة الشاعرَ أبا نواس أنشد قائلاً:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلتُ رجائي نحو بابكَ سلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنتهُ
بعفوكَ ربي كان عفوكَ أعظما
لا ينسى ربيع طوال عمره بيتاً من الشعر قاله الإمام، فوقع في قلبه موقعاً غيَّر مجرى حياته:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكـن التقـي هـو السـعيدُ
غطّى ربيع وجهه بكفّيه، وأجهش في بكاءٍ لذيذٍ، بكاءٍ غسل ما تشعر به روحه من انقباضٍ وتعاسة.. بكاءٍ سمح للنور أن يتسلل إلى قلبه لينشرح وينفسح.
في تلك الليلة عثر ربيع على مفتاح السعادة..
وفي تلك الليلة مات ربيع العاصي لله تعالى.. وولد ربيع الطائع التائب المنيب إلى ربه جلَّ وعلا..
كانت تلك الليلة بداية الطريق إلى الله..
تاب ربيع، وعكف على مجالس العلم ينهل منها رحيق السعادة..
بعد سنواتٍ عديدةٍ غدا ربيع داعيةً إلى الله تعالى، وجنّد أمواله لخدمة دين الله وهداية الضائعين وإرشاد من ضلوا عن سواء السبيل..
هنيئاً لربيع ولكل من سلك درب ربيع..
* * *
يقول تعالى في كتابه الكريم: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).