أبو محمود و أبو مازن تاجران يبيعان الأقمشة النسائية في سوق الحريم.
دكان أبي محمود بجانب دكان أبي عادل..
أقمشة أبي محمود نفسُ أقمشة أبي عادل..
ومع هذا، فإنَّ من يزور سوق الحريم يُدهش عندما يرى النساء يقصدن دكان أبي عادل، بينما تصفّق جنبات دكان أبي محمود خاويةً على عروشها.
جميع النساء اللواتي يقصدن سوق الحريم يعرفن أبا عادل، ويصفنه بأنه رجلٌ شهمٌ تقيٌ، ورعٌ ومستقيمٌ، لا يغشّ ولا يأكل المال الحرام، ويعامل زبائنه بلطفٍ ولباقةٍ ودبلوماسيةٍ.
أما أبو محمود فلن أصفه لكم، وسوف أترك ذلك لبعض زبائنه.
* * *
تقول سلوى: دخلتُ مرةً إلى دكان أبي محمود، وكانت تلك أول مرةٍ أقصد فيها سوق الحريم.
أعجبني قماشٌ ملونٌ من الحرير.. سألتُ أبا محمودٍ عن ثمنه فأجابني وعيونه تكاد تلتهمني: المترُ بسبعين ليرة يا خانم، وسأحسبه لك بستِّين ليرة فقط.. كُرمى لعيونك!.
لم يعجبني السعرُ، فأدرتُ ظهري أريد أن أخرج من المحل، ولكنه هبّ واقفاً، ولحق بي وهو يقول: عليّ الطلاقُ لن تخرجي من هنا إلا وأنت شاريةٌ راضية!
رجعتُ على مضضٍ، وبعد جدالٍ بيني وبينه أقسم لي بأنَّ رأسمال المتر خمسين ليرة، وأنه سيبيعه لي بخمسٍ وخمسين، فصدَّقتُه واشتريت.. وما إن خرجتُ من محله حتى اكتشفتُ كذبه.. فالقماش معروضٌ في جميع المحلات بخمسين ليرة!
ومن يومها لم أعد أدخل إلى محله، بل صرتُ أشتري من دكان جاره أبي عادل، ولو اضطرني ذلك للوقوف انتظاراً للدور، فهو بائعٌ أمينٌ لا يغش، ويغضّ طرفه عند مخاطبته للنساء، ويعامل زبائنه باحترام.
* * *
وتقول لمى: دخلتُ مرة إلى دكان أبي محمود.. كان يتناول طعام الفطور.. نظر إليّ بطرف عينه، ثم أكمل تناول طعامه وكأن أحداً لم يدخل.
أدرتُ ظهري وخرجتُ من المحل.. لم يحرك أبو محمود ساكناً، فهو مشغولٌ بتناول الطعام، وعلى الزبون حسب رأيه أن ينتظره مهما طال الانتظار.
دخلتُ دكان جاره أبي عادل، وبالصدفة كان هو الآخر يتناول طعام الإفطار، فترك طعامه ومسح يديه وهو يقول: أهلاً وسهلاً، كيف أستطيع أن أخدمك يا خانم؟
لم يتململ أبو عادل من كثرة طلباتي.. وجهه البشوش وأخلاقه السمحة أسرتني لأكون من زبائنه.
* * *
لو وقف أحد ما في مكانٍ ما بين دكان أبي عادل وأبي محمود، فسيسمع تعليقات بعض النساء الغاديات والرائحات وهنَّ يقلن: سبحان الوهَّاب، سبحان الرزَّاق..
كثيراتٌ من روّاد السوق يعتقدن أنَّ السبب في قلة زبائن أبي محمود وكثرتهنّ لدى أبي عادل يعود إلى سوء خلق الأول وغشّه، وإلى حسن أخلاق الثاني وأمانته.
لعلكم تتساءلون: كيف يتصرف أبو محمود عندما يرى النساء يزهدن ببضاعته، ويرغبن ببضاعة جاره أبي عادل؟
حسناً.. سأجيبكم.
قلب أبي محمود الأسود وعقله الأعوج حجبا عنه سلامة الرؤية وصحة التفكير، فصار لا يترك فرصةً يستطيع فيها الطعن بأبي عادل إلا ويغتنمها، وكل من يزور أبا محمود يدرك ببساطةٍ كرهه لجاره وحسده له..
لا يدري أبو محمود ماذا يفعل أمام نار الحقد والحسد التي تشتعل في قلبه تجاه جاره، ولا يشعر بالهناءة وراحة البال أبداً.. وكثيراً ما يرى في نومه طيف أبي عادل ومحلّه المكتظ بالزبائن، ويشهد في استيقاظه نجاح أبي عادل بأمّ عينيه، وكلما زار أحداً أو زاره أحدٌ من تجار السوق، قفزت سيرة أبي عادل لتكون شاهداً على حسن السيرة والسلوك.
أخذ أبو محمود يقلّب في عقله ويبحث عن طريقةٍ تخلّصه من جاره أبي عادل، وهداه تفكيره القاصر وقلبه الأسود إلى طريقةٍ ظنَّها عظيمةً، لكنها لم تكن كذلك، لا عند الله ولا عند عباد الله!
* * *
ذات ليلةٍ حدث حريقٌ كبيرٌ في سوق الحريم، التهم محل أبي غزوان، وهو جارٌ لأبي عادل وأبى محمود.
في اليوم التالي رأى الناس سيارة الشرطة تخترق سوق الحريم، وتتوقّف عند محل أبي عادل.
ترجّل منها شرطيان.. دخلا محل أبي عادل، وخرجا منه بعد دقائق وبصحبتهما أبو عادل.. ركبوا السيارة، وخرجوا من السوق..
دهش الحاضرون.. وانتشرت في السوق شائعةٌ فظيعةٌ: أبو عادل متَّهمٌ بإحراق دكان أبي غزوان!
همهم الجيران وغمغموا قائلين: هذا غير معقول.. يستحيل أن يفعلها أبو عادل.. أبو عادل رجلٌ مستقيمٌ يخاف اللهَ ويحب الناس.. لاشك أنَّ في الموضوع التباساً!!
وقف أبو محمود على باب دكانه يراقب ما يجري، وقلبه يكاد يطير من الفرح..
همس في نفسه: أخيراً سوف أتخلص منك يا أبا عادل..
ولكنه تظاهر بالحزن على جاره أمام الناس، وهرع مع من هرعوا إلى مركز الشرطة ليدلوا بشهادتهم حول أمانة أبي عادل واستقامته.
لم يصدق تجار السوق أن أبا عادل هو من أحرق دكّان أبي غزوان، ولم يقنعهم بذلك ما قيل عن عثور الشرطة على جزدان أبي عادل، وفيه أوراقه وبطاقته الشخصية، في الدكّان المحترق.
صاح أحدهم: كيف احترق الدكّان بكل ما فيه من بضائع ولم يحترق جزدان أبي عادل؟!
سؤالٌ وجيهٌ لم يجد له أحدٌ جواباً حتى الآن.
* * *
بعد بضعة أيامٍ من توقيف أبي عادل، زارت سيارة الشرطة سوق الحريم مرة أخرى، ولكنها توقفت هذه المرة عند أبي محمود، واقتاده بعض عناصر الشرطة من محلِّه، ثم اتجهوا به إلى المخفر.
تساءل الناس عما يجري..
لا أحد يعرف الجواب!
بعد ساعاتٍ عرف الجميع الجواب: حادث الحريق مدبرٌ من أبي محمود!
لقد تواطأ أحد عناصر الشرطة مع أبي محمود مقابل رشوةٍ كبيرةٍ ليدسّ جزدان أبي عادل ضمن العيّنات الملتقطة من مكان الجريمة!
ولكن كيف وصل جزدان أبي عادل إلى يد أبي محمود؟
وكيف ظهرت الحقيقة؟
أما جزدان أبي عادل فقد تمّ اختلاسه من دكّانه قبل يومين من الحادث بناءً على تواطؤ أحد موظفي أبي عادل مع أبي محمود مقابل رشوة.
أما الحقيقة فقد ظهرت عندما شهد أحد موظفي أبي محمود بأنه رأى مستخدمَ أبي عادل وهو يسلّم الجزدان لأبي محمود منذ عدة أيام!
ودعم تلك الشهادة أنَّ أبا عادل بلَّغ المخفر عن ضياع بطاقته الشخصية في اليوم الذي تمّ فيه اختلاسها.
كما كان لموضوع احتراق المحل بكل ما فيه، وسلامةِ الجزدان من أن تمسه النار أهميته في كشف الحقيقة.
عاد أبو عادل إلى محله وقد ازدادت محبة الجيران والزبائن له أضعاف ما كانت، وسيق أبو محمود إلى السجن ليلاقيَ جزاء ما كسبت يداه.. وصدق من قال: من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها!
* * *
سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أفضل؟ فقال: كلُّ مخمومِ القلب صدوقِ اللسان.
قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ فقال: هو التقي النقي لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسد. صححه الألباني.
* * *
يقول الشاعر:
أيا حاسداً لي على نعمتي
أتدري على من أسأتَ الأدبْ؟!
أسأتَ على الله في حكمه
لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
فأخزاك ربي بأن زادني
وسدَّ عليك وجوهَ الطلبْ!