الارشيف / ثقافة و فن / في الفن

لماذا نجح "الرجل العناب" وفشل "حياتي مبهدلة"؟

فيلم محمد سعد الجديد، هذا هو الوصف المستخدم حصرياً في الإشارة لفيلم "حياتي مبهدلة"، سواء من قبل المشاهدين أو حتى الصحفيين والنقاد. وصف مسيئ لمخرج الفيلم الذي يفترض في الظروف الطبيعية أن يُنسب العمل إليه؟ صحيح، لكن من قال إن العمل مع محمد سعد يمكن اعتباره ظرفا طبيعيا؟

حسناً، لن نطيل في هذا الجدل المحسوم ضمنا لصالح الوصف الشائع، ففي النهاية "تتح" مثل "بوحة" مثل "بوشكاش" مثل "عوكل"، كلها تجليات للنجم الذي فشل كل مؤلفي ومخرجي الكوميديا الذين تعاونوا معه، وكل المقالات النقدية والترنح التجاري، في إثناءه عن الطريق الذي يسير فيه بلا توقف. موضوعنا هنا ينطلق من المخرج شادي علي، مدير التصوير الذي اعتلى مقعد الإخراج قبل عامين في مسلسل "الرجل العناب" فحقق نجاحا لافتا، على مستوى صنعة الكوميديا والجماهيرية، لكنه عاد في "حياتي مبهدلة" بشكل باهت.

يمكن بسهولة تفهم سبب اختيار شادي علي للفيلم وتحمسه لإخراجه، ففي النهاية المعادلة مقاربة بين العملين: كوميديا شعبية تقوم على حدث خارق للطبيعة (قوة خارقة في المسلسل ولعنة سحرية في الفيلم)، تحتاج لتنفيذ منضبط لمشاهد الخدع مع الحفاظ على إيقاع مناسب للإضحاك. حسبة بسيطة، لكن الشيطان يكمن دائما في التفاصيل.

ولما كانت إضاعة المساحة في تحليل فيلم سيئ أمر غير محمود ـ وغير مفيد غالباً ـ فإننا سنقوم في هذا المقال بعقد مقارنة توضح أسباب نجاح "الرجل العناب" وفشل "حياتي مبهدلة"، مع الوضع في الاعتبار وجود الكثير من المعطيات المتشابهة في المعادلة: نفس المخرج، نفس معادلة الحكاية، أبطال ذوي قبول جماهيري. في محاولة لتوضيح بعض الأسس التي يهملها التحليل عادة عند التعرض للأعمال الكوميدية.

وإذا نظرنا للاختلافات المسببة لتفاوت صدى العملين، فسنجد أنها تندرج تحت ثلاثة أسباب:


هذه النقطة لا ترتبط بالعملين المذكورين فقط، بل بطريقة محمد سعد وطريقة الثلاثي شيكو وأحمد فهمي وهشام ماجد في الإضحاك. سعد هو ابن صناعة الكوميديا المصرية التقليدية، وهي صناعة تبدو عشوائية في إطارها الخارجي (الإنتاجي والإخراجي والسردي)، لكنها غير عشوائية إطلاقا فيما يتعلق ببناء النكتة الواحدة (أو الإيفيه الواحد طبقا للمصطلح الأكثر شيوعا ودقة). وبقلب مستريح يمكن القول بأن 80 بالمائة من إيفيهات أي عمل كوميدي مصري تقوم على طريقة البناء الثلاثي "واحد.. اثنان.. نكتة"..

مثال 1:

- تشربي ايه؟ (واحد)
- كونياك (اثنان)
- برافو.. مشروب البنت المهذبة (إيفيه)

مثال 2:

- مكنتش أعرف إن أنتِ كمان بتفكري في الحاجات دي (واحد)
- متكسفنيش بقى يا لمبي (اثنان)
- وأنا اللي كنت فاكرك مؤدبة (إيفيه)

مثال 3:

- أنا هاسابق سراج (واحد)
- مينفعش يا خلف.. سراج بطل الجمهورية (اثنان)
- وإيه يعني؟ مانا ثاني الجمهورية وسلمت على سيادة المحافظ واتصورت معاه (إيفيه)
- هو بطل الجمهورية في السباحة أنت في التعليم (اثنان)
- ما كلها تقديرات من الدولة (إيفيه)

نكتفي بهذا القدر من الأمثلة، وأظن أن الأمر أصبح واضحا إلى حد كبير. بنية الإيفيه المصري تعتمد على الجملة الافتتاحية (عادة ما تكون جملة عامة لا دور لها إلا بدء الحديث)، التمهيد أو الفَرْش (عبارة عن معلومة أو رأي يقوله السنّيد ليفتح المجال للجملة الأهم)، ثم الإيفيه الذي يأتي دائماً قاطعاً، ينهي الحوار في الموضوع تماما بسخريته أو غرابته، لينتهي البناء السابق ويبدأ التحضير للإيفيه التالي بطريقة مشابهة، وهكذا حتى النهاية.

لماذا ملّ الناس من محمد سعد؟ وقبله من هنيدي وآدم وبعده من مكي وأسماء أخرى، أخذ كل منهم دورة نجاحه: الانتقال من الأدوار الثانية للبطولة المطلقة، نجاح مبهر في عملين أو ثلاثة ثم يبدأ النجاح في الانحسار.

ويبدأ نفس النجم الذي كان وجوده على الشاشة يرسم البسمة على وجهك تلقائيا يتحول لشبح غير مضحك. لماذا؟ لأن كل منهم ببساطة استنفذ مخزونه من استخدام نفس القالب في الإضحاك، يظل كل منهم في حياته خفيف الظل فطرياً، ينتزع منك الضحكات لو جالسته أو شاهدته يتحدث على سجيّته في برنامج، لكن بمجرد أن يقف أمام الكاميرا ويبدأ زملاءه الداعمين أو السنّيدة يفرشون له ليلقي بنفس الإيفيهات، تختفي خفة الظل ليس لأن صاحبها تغيّر، ولكن لأن المشاهد تشبّع بردود أفعاله وطريقة أداءه في هذه المساحة، باختصار افتقد تماما لعنصر المفاجأة الذي تقوم عليه الكوميديا كلياً، فالجملة أو الفعل يضحك إذا فاجئك، بينما لو توقعت موعد قدومه وشكله يغدو من العسير جداً أن يفعل نفس الشيء.

(بالمناسبة البناء السابق هو ما يجعل عمر نجاح ممثلي الدور الثاني في الكوميديا أكبر بكثير من الأبطال، ففي النهاية دورهم في بنية الإضحاك يكفل لهم إظهار خفة ظلهم دائما وبأشكال مختلفة، دون أن يُحسب الإيفيه بالكامل عليهم، فقد تفشل الجملة رقم 3 لكن تظل الجملة 2 مضحكة وبعيدا عن المحاسبة).

ما فعله الثلاثي شيكو وفهمي وماجد منذ ظهورهم، والذي كفل لهم البقاء حتى يومنا هذا مصنفين ضمن أفضل وأنجح المضحكين، هو تفكيك الاعتماد على البناء الثلاثي في الإضحاك. يلجأون له أحيانا بالطبع، لكن يستخدمون معه العديد من الأشكال الأخرى للإضحاك. قد يفاجئك عملهم بأن الإيفيه موجود في الجملة الأولى دون حوار أو فرش، وقد يتغير السنيد ليصير بطل المشهد فجأة ويلقي بالنكتة في الجملة الثانية، وأحيانا ما يكون قمة الإضحاك هو تجاوز الجملة الثانية، بأن يصل للمشاهد إحساساً بأن الجملة التالية لابد وأن تكون إيفيه مناسب للفرش، فيجد أن الشخصية الثانية تجاوزتها وتعاملت معها وكأنها جملة اعتيادية جدا.

أضف لما سبق مساحة استخدام التراث كوسيلة للإضحاك، سواء كانت محاكاة ساخرة "بارودي" أو مجرد الاستفادة من جملة أو شخصية يعرفها الجمهور من الواقع أو من عمل فني سابق لتقوم بفرش الإيفيه مسبقا داخل عقل المشاهد دون أن يحدث هذا على الشاشة. وهي طريقة إضحاك أخرى بدأت تنتشر في الأفلام المصرية بعدما استخدمها الثلاثي بنجاح.

شخصية تتح التي ظهرت في فيلم بنفس الاسم ثم عادت في "حياتي مبهدلة" قد تكون مضحكة بشكل مجرد، وسعد يبرع كعادته في تقمصها حركياً ولفظياً. لكن المشكلة الأولى ليست في الشخصية أو الحكاية، ولكن في أن الجمهور قد شاهد البطل يفعل نفس الأشياء من قبل، صار يتوقع هذه الحركة وتلك النكتة لأنه تشبع بموهبة سعد ومساحة قدرته على خلق النكتة في الحيز الذي يرفض أن يغيره.


تحدثنا عن دور الممثل الداعم أو السنيد في بناء الإيفيه الواحد، لكن ماذا عن دوره في العالم الدرامي ككل؟ هذا أمر تقع الأخطاء المتعلقة به بشكل يومي تقريبا في معظم الأعمال الكوميدية المصرية، والتي يظن صناعها أن وجود أكبر عدد ممكن من نجوم الصف الثاني كفيل بأن يكون العمل مضحكاً (المنطق الشائع: لو ألقى كل منهم بأيفيهين أو ثلاثة فسيكون لدينا قدر كاف من الضحك في الفيلم). لكن الحقيقة أن الأمور لا تسير بهذه الصورة أبدا عندما يتعلق الأمر بصناعة عمل يقوم ـ رغم أنف صنّاعه أحيانا ـ على الدراما.

في رمضان الماضي اندهش الكثير من محبي كوميديان صاعد هو علي ربيع أنه ظهر بشكل باهت في مسلسل "لهفة" ولم يضحكهم بالقدر الذي اعتادوا عليه في أعمال أخرى، والسبب ببساطة هو وجوده "في حيز" المسلسل وليس "داخله"، هو متواجد على الشاشة ويظهر في المشاهد مع الأبطال لكن لا يربطه بهم رابط درامي حقيقي، فيمكن بسهولة الاستغناء عن وجوده في معظم الحالات دون أن تتأثر الدراما كثيرا، ودون أن نفقد ـ وهو الأهم ـ علاقة إنسانية قد لا يدور العمل حولها، لكنها تدفع الكوميديا في مسارها كعلاقة لهفة بقريبها الريجيسير في المسلسل مثلاً.

"حياتي مبهدلة" يضم بجوار سعد أربعة مضحكين من الصف الثاني على الأقل: حسن حسني وأحمد فتحي وسامي مغاوري وإيمان السيد. لكن العمل يجبرهم جميعا على لعب دور السنّيد فقط، لا مساحة لأي منهم سوى التواجد في حيز البطل الواحد ومساعدته في أن يلقي أكبر قدر ممكن إيفيهاته الخاصة. أمر لن نقارنه هنا بمسلسل "الرجل العنّاب" الذي كان حافلا بالعلاقات الذكية التي توظف ممثلي الصف الثاني دراميا وتمنحهم مساحاتهم الخاصة للإضحاك، ففي النهاية زمن المسلسل يمنح حرية لذلك أكثر من الفيلم، لكن سنقارنه بحالات أخرى نجح فيها محمد سعد نفسه في توظيف الشخصيات الداعمة.

من منّا ينسى خالتي فرنسا وعمّ باخ؟ كلاهما صورة مثالية للشخصية الداعمة الكوميدية الناجحة: كل منهما يمتلك ارتباطا وعلاقة إنسانية حقيقية بالبطل أبعد من مجرد الفرش والتمهيد، ولكل منهما حكاية خاصة خارج الخط الرئيسي، قد تكون مساحة محدودة جدا، لكنها في النهاية تمنح الشخصيات روحاً وتجعل وجودها يأتي من أرضية صلبة ويدفع الكوميديا للأمام. بل لن نعود كثيرا بالزمن وسنقول أن العلاقة بين نفس شخصية تتح وابن أخيه (الذي لعب دوره عمر مصطفى متولي في الفيلم السابق "تتح")، هي شكل مثالي لعلاقة البطل - السنيّد دراميا وإنسانيا، افتقد الفيلم الجديد لوجود أي شبيه لها.


ننهي بهذه النقطة التي انطلقنا منها، وهي تواجد نفس المخرج في عملين يفترض أن يقوما على نفس المعادلة السردية: ظاهرة خوارقية في حيّ شعبي. مع الوضع في الاعتبار أنها مجرد أعمال كوميدية مصرية، ليست أفلاماً هوليوودية ولا ننتظر منها إبهاراً أو إتقاناً في المؤثرات الخاصة. المطلوب فقط أن يكون الخيار البصري مناسبا لدراما العمل وجوّه العام.

نظرياً، مؤثرات "الرجل العنّاب" أفقر كثيراً من مثيلتها في "حياتي مبهدلة"، الذي يمتلك على سبيل المثال مشهد تم تنفيذه بحرفية كبيرة هو مشهد سير تتح وحبيبته على السحاب. لكن عملياً وبأقل المعايير التي يدركها من شاهد أي فيلم خوارقي أجنبي، كلاهما مجرد محاولة. لماذا نجح العنّاب إذن؟ لأن فقر الصورة كان ببساطة خياراً يناسب الدراما بل ويضفي عليها بعداً كوميدياً. البطل الخارق الذي اعتدنا أن نشاهده بأكثر الصور إبهارا في الأفلام الأمريكية، عندما يكون في الحقيقة راقص في فرقة عصام كاريكا، غبي ومخارج ألفاظه مضطربة، ويحب البدينات القبيحات ويفضلهن عن الجميلات، فمن الملائم جدا أن تكون مشاهد طيرانه وقوته الخارقة بنفس المستوى من التردي!

ضعف الإمكانيات في المسلسل لعب في صف الكوميديا سواء تم هذا بوعي المخرج أو دون أن يقصد، أما في "حياتي مبهدلة" والذي يقوم على فكرة شعبية كلاسيكية: لا تصدم قطاً أسود في الليل حتى لا يهاجمك شبحه. فكرة لم يجتهد السيناريو في رسم جوّ عام لها، لا تحمل أي ارتباط بالثقافة الغربية التي ظهرت فجأة بالذهاب لقصر البارون وملابس الملكة القطة (إيمان السيد) التي ترتدي فستانا من عصر الباروك وتتحدث بلغة سوقية، ولم يجتهد المخرج وفريقه في منحها أي هوية بصرية، وبالتالي جاءت الصورة ـ التي قلنا أنها أثرى من مثيلتها في المسلسل ـ موحية بفقر في الصنعة، على العكس من فقر الإمكانيات الموظف بذكاء في "الرجل العنّاب".

وفي النهاية
للأسف لا يزال معظم صناع الكوميديا ـ ونجومها ـ يتعاملون معها باعتبارها عمل عشوائي، لا قواعد فيه سوى خفة الظل وحشد أكبر قدر من الإيفيهات. على الرغم من أن أبسط محاولة لتحليل عشرات التجارب السابقة الناجحة والفاشلة، يمكنها أن تعطينا إشارات واضحة لما يمكن أن يمتلك فرصاً أكبر في النجاح.

Please enable JavaScript to view the comments powered by Disqus. comments powered by

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى