وهذه هي أهم سمات مسيرة نور الشريف الفنية، خصوصا في الأدوار الصعبة أو المتوقع أن يرفضها الجمهور: أن تدخل إحدى المناطق الشائكة في مجتمعنا مثل الدين، فنور الشريف قدم شخصية ضعيف الإيمان أو الملحد في 6 أعمال تقريبا، ليصبح بذلك أكثر ممثل قدم تلك الشخصية على شاشة السينما.
البداية كانت مع جرأة المخرج حسن الإمام ونور الشريف في استكمال مسيرة "كمال" في "ثلاثية" نجيب محفوظ، وذلك في فيلم "السكرية" الذي عُرض في سنة 1973، أي وقتما كان نور الشريف في أوج شبابه.
وعلى الرغم من صغر سنه وقتها، إلا أن نور وافق على استكمال دور "كمال"، ليظهر على الشاشة الفضية بشعره الأشيب وانحناءه ظهره البسيطة، ويترك البطولة المطلقة التي كان اعتاد عليها إلى أسماء عدد من الممثلين الشباب وقتها، مثل حسين الإمام، ومحمد العربي، وعبدالرحمن على، وليس هذا فحسب، بل يقدم دور "كمال" الشخص ذو النظرة الفلسفية التي قد تقترب أفكاره في بعض الأوقات من حافة الإلحاد.
أما في سنة 1974، فجسد نور الشريف واحدا من أكثر أدواره إثارة للجدل، عندما قدم فيلم "الإخوة الأعداء" عن رائعة ديستوفسكي "كرامازوف"، وأعدها للسينما المصرية وكتب السيناريو والحوار لها رفيق الصبان ونبيهة لطفي، وفي هذا الفيلم الذي شهد مباراة تمثيلية بين يحيى شاهين وحسين فهمي ونور الشريف ومحيي إسماعيل ونادية لطفي وميرفت أمين، قدم نور دور "شوقي القرماني" الشاب الملحد الذي ينكر وجود الله من أساسه، ليدخل في صراع العائلة الدائر ليصل إلى يقين بأن الله موجود.
نور الشريف في فيلم "الإخوة الأعداء"
نور قدم الدور بشكل يُحسد عليه، بداية من تخيله لشكل الشخصية، وظهوره في ملابس تشبه ملابس الرهبان الضيقة، ومشيته الصارمة ونبرة صوته، واستغل نور كل أدوات الممثل الاستغلال الأمثل ليجسد تلك الشخصية صعبة المراس دون ابتذال أو افتعال، وهو الرهان الذي فاز به نور عندما عُرض الفيلم في صالات العرض.
بين أفكاره والرغبة في التحرر من قيود الأديان وتشدد والده، وإرغامه على إقامة الشعائر الدينية، يقع "عباس" الشاب طالب الهندسة، وهو الدور الذي أداه نور الشريف في فيلم "لقاء هناك" في سنة 1976 للمخرج أحمد ضياء الدين، وهو عن قصة وحوار ثروت أباظة وسيناريو أحمد عبدالوهاب.
واقتحم نور الشريف بشخصية "عباس" أكثر من منطقة شائكة في مجتمعنا، فمن التحرر من القيود الاجتماعية والدينية إلى منطقة الحب المستهجن بين شاب مسلم وفتاة مسيحية، ليؤكد نور الشريف مرة أخرى على جرأته الشديدة في اختيار الأدوار، ورهانه على تقديم نفس الدور بشكل مختلف في كل مرة.
السحر والشعوذة والانتقام عن طريق الجان كانوا طريق "طلال" للخلود والانتقام من قتلة زوجته، و"جلال" هي الشخصية التي قدمها نور الشريف في فيلمه النادر والمجهول للكثيرين "أصدقاء الشيطان"، الذي عُرض في سنة 1988، وأخرجه أحمد ياسين وكتبه إبراهيم الموجي.
ويخوض نور مرة أخرى في الفيلم مغامرة سينمائية شائكة للغاية، إذ يقدم دور الزوج الذي تموت زوجته مصادفة، فيقرر الانتقام من قاتليها بالسحر والخلود.
أما "جعفر" المتمرد على جده والمطرود من جنته بغية تحقيق ذاته، فقد كان رهان نور الشريف في سنة 1989، عندما قدم مع المخرج عاطف الطيب فيلم "قلب الليل"، عن قصة نجيب محفوظ، وسيناريو وحوار محسن زايد، وهنا يغوص نور في قلب فلسفة نجيب، وصراعه بين الرب والإنسان، وهو ما طرحه عاطف الطيب بكل ملكاته الإخراجيه في هذا الفيلم، وساعده إدراك فريد شوقي "الجد" لحقيقة دوره.
نور الشريف في فيلم "قلب الليل"
وبعيدا عن ما للفيلم وما عليه من نقد، فإن مغامرة الشريف هنا كالعادة تُحسب له لا عليه، التصدي لشخصية من شخصيات نجيب المحملة بميراث هائل من الفلسفة، ومحاولة فهم العلاقة بين الإنسان والرب، وربما لا تكمن جرأة نور الشريف فقط في اختيار الدور وتقديمه، بل أيضا في اختيار توقيت العرض، فتخيل أن هذا الفيلم عُرض بسنة 1989، أي في ذروة الإرهاب في مصر، وانتشار الفكر التكفيري في الشارع المصري، فكانت التهمة الجاهزة دائما ضد أي مفكر أو فنان أو مبدع هي الكفر، ونور الذي قرر ألا يهتم بهذا كله ويقدم ما يراه جيدا وما يريده كسب رهانه على جرأته واجتهاده مرة أخرى.
وجه آخر لشخصية ضعيف الإيمان أو الملحد يقدمه لنا نور الشريف في فيلم "الرقص مع الشيطان"، والذي عُرض بسنة 1993، وهو من إخراج علاء محجوب، ومن تأليف محمد خليل الزهار، وهنا يقدم نور شخصية الملحد أو ضعيف الإيمان ليس عن رفض غير مسبب، أو محاولة للتحرر والتغيير أو حتى التمرد مثلما قدم سابقا، ولكن شخصية "واصل" جاءت مؤمنة إيمان شديد بالعلم، مما جعلها ترفض الإيمان بكل الغيبيات الإخرى، وربما كان مبرر الشخصية لهذا هو دراستها في الإتحاد السوفيتي حيث لا مكان للعقائد هناك.
نور الشريف في فيلم "الرقص مع الشيطان"
نور يقدم في فيلم "الرقص مع الشيطان" شخصية "واصل المظلوم" باقتدار وحكمة كبيرة، كمن علم خبايا تلك الشخصيات المركبة والمعقدة والمختلفة في التفكير، وربما لأن السينما المصرية لم تتخلص حتى الآن من الجانب الوعظي، فقد دفع كاتب الفيلم بطله هذه المرة لحافة الجنون، لا للتوبة والندم كما حدث في كل الأفلام السابقة.
Please enable JavaScript to view the comments powered by Disqus. comments powered by