فيللا الأستاذ ظريف
قصة للناشئة
( 12-15 سنة )
إهداء
إلى الشَّبيهتين شكلاً و مضموناً، المالكتينِ ذائقةَ السّخريةِ الرّفيعة، اللتينِ قرأتا الرِّوايةَ قبل نشرها، و عملتُ بنصائحهما : مهيبة أكربا، و ديدو جحا
إيمان بقاعي
(1)
- لا يمكنكِ يا أمّي أن ترفضي العرضَ الرَّائع الَّذي يقدمه ابنُكِ ظريف لعيشِ بقيةِ حياةٍ هانئةٍ...
قال ظريف الَّذي تجاوزَ العشرينَ ببضعةِ سنينَ جملتَه هذه بسرعةٍ كالعادةِ، و مِن دونِ أن يفكِّرَ إن كانَت ستزعِجُ أمَّه، و هو طبعاً لم يُرِدْ إزعاجَها، لأنه كان - كما يعتقدُ - يدلِّلُها جدّاً جدّاً جدّاً...
و رغمَ أنَّ أمَّ ظريف كانَت تعرفُ طبيعةَ ابنِها المتسرِّعةَ و كلماتِهِ الَّتي غالباً ما تسبقُ تفكيرَهُ، فقد غضبَتْ عندما سمعَتْ جملةَ : " بقيَّة حياة هانئة "؛ لذا سارعَتْ إليه و أمسكَتْ بقبَّةِ قميصِه قائلةً بغضبٍ :
- ماذا تعني ؟ هل تعني أنَّني عجوزٌ ؟ تذكَّر أنني لم أتجاوزِ الخمسينَ...
انحنى ظريف بقامتِهِ الطَّويلةِ إلى أُمِّهِ البنّيَّةِ اللَّونِ، الكرَويَّةِ الشَّكلِ، هامساً في أذنِها :
- إلا بأحدَ عشَرَ عاماً...
و ضحكَ و هو يناولُها سُترَتَها الزَّرقاءَ الوحيدةَ الَّتي تلبسُها عادةً عندما تخرجُ من البيتِ - و قلَّما تفعلُ - و قالَ بعد أن قبَّلَ جبينَها بسرعةٍ :
- أوه يا أُمّي ! أنتِ تعرفين أنَّني أعتبرُك الأمَّ الأجملَ و الأذكى، و ها أنذا اليومَ أزيدُ على هاتينِ الصِّفتين صفةَ أنَّكِ الأمُّ الأكثرُ شباباً...
ابتسمَت أمُّ ظريف ابتسامةً واسعةً و هي تسمعُ الصِّفةَ الأخيرةَ، و تسارعَتْ خطواتُها كي تثبتَ لابنِها أنها مازالَت شابَّةً بالفعل، حتى إنَّها - في غمرةِ فرحتِها باللَّقبِ الجديدِ - نسيَت أن تسألَه إلى أين وجهتُهما.
و أردفَ و هو يفتحُ لها بابَ سيَّارتِهِ العتيقةِ ( دلال ) لتصعدَ ثم يغلقُه و يسرعُ إلى الجهةِ المقابِلة :
- تصوري أنَّ إحدى زميلاتي المعلِّماتِ سألَتْني بعد أن رأتْنا معاً، أنا و أنتِ يعني، في السُّوقِ : ما اسمُ أُختِكَ الصَّغيرةِ الَّتي كانَتْ بالأمسِ معك يا ظريف ؟
ضحكَتْ أُمُّ ظريف قائلةً و هي ترتِّبُ خصلاتِ شعرِها البنيَّ الكثيفَ القصيرَ الَّذي صفَّفَتْه قبل يومينِ عندَ الحلَّاقِ لحضورِ عرسِ حفيدَةِ جارتِها أُمّ سليم :
- لا تُبالغْ يا حبيبي !
صعدَ وراءَ المقودِ و أدارَ مفتاحَ سيّارتِهِ العتيقةَ ( دلال ) و شهقَ :
- أُبالغُ ؟ أبداً...
ثم انفجرَ ضاحكاً، فهزَّت كتِفَيْها غيرَ عابئةٍ بضحكتِه.
(2)
في بيروتَ، لا يقودُ ظريف عادةً سيارتَهُ ( دلال ) بسرعةٍ، لئلَّا يخالفَه الشُّرطيُّ أولاً، و لئلَّا تفوتَهُ إشاراتُ السَّيرِ ثانياً، و لئلَّا تنهالَ على رأسِهِ مجموعةٌ من تهديداتِ أمِّه العاليةِ النَّبرةِ بالنّـزولِ من ( دلال ) و العودةِ إلى البيتِ سيراً على الأقدامِ. و لكن.. في هذه القريةِ السّاحليّةِ التي تبعدُ ربعَ ساعةٍ جنوباً عن بيروتَ : لا إشاراتِ سيرٍ، و لا شرطة، كما أنَّ تهديداتِ النّزولِ و الذّهابَ إلى البيتِ بالذّاتِ غيرُ قابلةٍ للتَّنفيذِ؛ لأَنَّ البيتَ قد يكونُ أبعدَ بكثيرٍ كثيرٍ كثيرٍ من السّاحةِ و البيوتِ و الدّكانةِ الوحيدةِ و فرنِ المناقيشِ الّذي تنادي رائحةُ الزَّعترِ و الكشكِ و الجبنةِ و القاورما كلَّ المارَّةِ لاختيارِ منقوشةٍ، و قد نادَتِ الأُمَّ و ابنَها فتوقّفا و أكلا و استمتَعا قبل أنْ...
(3)
سلكَ ظريف طريقاً ضيّقةً كانَ أهلُ القريةِ مِن زمان يسمُّونها : " قادوميّة "، يمشي عليها النَّاسُ على أقدامِهم قبلَ أن تتحولَ إلى طريقِ سيّاراتٍ لا تخلو مِنَ المخاطرِ التي تحتاجُ سائقاً إمّا مغامِراً أو غبيّاً ليسلكَها، خاصةً إذا التقَت سيَّارتانِ صعوداً و نزولاً.
و كانَت الطَّريقُ متجهةً نحو الأعلى فالأعلى فالأعلى، حتى ظنَّتْ أمُّ ظريف أنَّ ابنَها صاعِدٌ لا محالةَ إلى قمَّةِ الجبلِ ربما لالتقاطِ صورةٍ تذكاريَّةٍ رائعةٍ معَها و خلفهما سماءٌ زرقاءُ و غيمةٌ كبيرةٌ، فكانت - بين الحينِ و الآخَر - تنظرُ إلى أسفلِ الوادي، فتسري من قمةِ رأسِها إلى أخمصِ قدمَيها موجةُ خوفٍ تخبرُها أنها ستتدحرجُ مثلَ كرةٍ لتستقرَّ في حضنِ ثعلبٍ أو حيَّةٍ أو ذئبٍ أو لبؤةٍ تفتشُ لزوجِها عن صيدٍ " سمين "، فتغمضُ عينيْها و تنتظرُ لحظةَ انتهاءِ هذه الرِّحلةِ الغامضَةِ على أحرِّ من الجمرِ. لكنَّ السَّيارةَ ( دلال ) ما لبثَتْ أن انحدرَتْ في طريقٍ مُواجهٍ ضيِّقٍ أيضاً يظنُّ النَّازلُ فيه أن المكانَ قد خُسِفَ في عصرٍ جيولوجيٍّ قديمٍ قديمٍ.
و ما كانَ الخوفُ ليزولَ من قلبِ المرأةِ لو لم تقفِ السيَّارةُ ( دلال ) فجأةً، بعدَ أن اجتازَتْ بيتاً كبيراً مَهجوراً مُوصَدَ الأبوابِ و الشَّبابيكِ، كابيَ النَّباتاتِ المُهمَلةِ الَّتي تملأُ حديقتَه الأقربَ إلى بستانٍ مترامي الأطرافِ ابتلَعَ الدَّهرُ أصحابَهُ منها إلى حديقةِ منزلٍ. و ترافقَ صوتُ وقوفِ السَّيارةِ ( دلال ) المُفاجئِ بصوتِ ظريف العالي الَّذي ترافقَ بدورِهِ بصوتِ زمُّورٍ أطلقَهُ عالياً بمرحٍ، فتردَّدَ صداهُ بينَ الأشجارِ :
- هذا هو بيتُنا الجديدُ !
قالَ ظريف هذا و أشارَ إلى منـزلٍ صغيرٍ على بُعدِ أمتارٍ من البيتِ المهجورِ، لا تتجاوزُ مِساحَتُهُ خمسينَ متراً مربَّعاً، مطليٍّ من الخارجِ بطلاءٍ رخيصٍ أبيضَ، و مُحاطٍ بحديقةٍ مساحتُها حوالي مئة مترٍ مربَّعٍ يقابلُ بابَ البيتِ الداخليِّ فيها بابٌ خشبيٌّ أحمرُ هزيلٌ، و هي مُسوَّرةٌ بجدارٍ إِسمنتيٍّ أبيضَ أيضاً ارتفاعُه نصفِ مترٍ، يتيحُ لأيٍّ كانَ أن يقفزَ إلى داخلِها، و ربَّما إلى داخلِ البيْتِ.
هذا ما فكرَتْ به أُمُّ ظريف، و غضبَت قائلةً و هي تنـزلُ من السَّيَّارةِ ( دلال ) :
- هذا ؟ هُنا ؟ في كعبِ الوادي ؟
صحَّحَ معلوماتِها و هو يضعُ ذراعَهُ خلفَ كتفيها و يشدُّها نحوه :
- لا يا أُمي... اسمحي لي.. إنكِ تزوِّرينَ المسافاتِ عَمْداً، فهناك أكثرُ من عشرينَ متراً انزلاقاً لبلوغِ كعبِ الوادي...
قالَت بنفاذِ صبرٍ و هي تبعدُ ذراعَهُ :
- عشرونَ، ثلاثونَ، أربعونَ، بِطِّيخُونَ....
و أحنى رأسَهُ إلى رأسِها، و كعادَتِه حين يريدُ أن يتوددَ إليها، ضربَ جبينَهُ بجبينها، لكنَّها - على غير عادتِها - أبعدَتْهُ عنها بعنفٍ :
- كل ما أراهُ أننا سنسكنُ مع بناتِ آوى و زُمَرِ الذِّئاب.
قالَ بسرعةٍ محاولاً تخفيفَ غضبِها :
- و ربما مع قطيعِ ظِباءِ... كوني متفائِلةً.. ألفُ مرةٍ قلتُ لكِ إِنَّ التَّشاؤمَ....
لكنَّها قاطعَتْه بعد أن أدارَتْ رأسَها باحثةً عن شيءٍ لم تجدْه :
_ و البحرُ ؟ أين البحرُ في هذه القريةِ الَّتي يُفترضُ أنها ساحليَّةٌ ؟ هه ؟
حكَّ ابنُها رأسَه :
- و الله يا أمِّي أسئلتُكِ أصعبُ من أسئلةِ امتحاناتِ الثَّانوية.
قالَت بحزمٍ :
- أجبْ !
و أجابَ :
- مؤقَّتاً، هناكَ نهرٌ... تعالَي !
و أخذَ بيدِها إلى خلفِ البيتِ و أشار بسبّابتِهِ إلى أسفلِ أسفلِ أسفلِ الوادي، حيثُ ثمة مجرى ترابيٌّ بينَ صفَّي أشجارٍ، و قال :
- هذا نهرُ " أبو دمعة " !
- أين ؟
- هذا... تحتْ !
- لا أرى ماءً !
- يا أُمِّي يا أُمِّي... اربطي الأمورَ ببعضِها من فضلِكِ.. هل أعطيكِ حبْلاً ؟
هربَت من " غلاظتِه " إلى مكانِها الأولِ، و لحقَ بها شارِحاً :
- هذا نهرٌ شتويٌّ، تقريباً... أقولُ تقريباً حتى لا تضيّعي وقتَكِ في مراقبتِهِ من أولِ الشِّتاءِ، فأمرُ جريانِهِ يعتمدُ - حتى شتاءً - على كميَّةِ الأمطارِ الهاطلةِ، إذ يجبُ أن تكونَ مِدرارةً لتري ماءً يشبهُ الدَّمعةَ، و إلا لماذا أَسمّوه " أبو دمعة " ؟
قرِفَتْ من الشَّرحِ، و قالَت :
- يا سلام ! نهرٌ بشروطٍ...
- بشروطٍ أو بلا شروطٍ، هو نهرٌ و له اسمٌ، مثلُه مثل نهرِ النِّيلِ بالضَّبط، و الكلُّ يعترفُ به حتى عمو غوغل شخصيّاً !
- هذا لا يعفيكَ من الإجابةِ...
- عن سؤالِ ؟
- البحرُ... ما قصَّةُ البحرِ ؟
قالَ مبتسِماً و بثقةٍ :
- سيكونُ لنا موعدٌ مع منظرِ البحرِ عندما نبني بيتاً فوقَ هذا البيتِ...
و علا صوتُها هازئةً :
- تقصدُ عندما نبني ناطحةَ سحابٍ...
و استغرقَ في الضَّحكِ، لكنها استغرقَت في الكآبَةِ و هي تشعرُ أنها ستسكنُ بئراً لا بيتاً؛ لذا التفتَتْ إليه تسألُهُ و قلبُها يرجو أن لا يكونَ كلامُهُ إلا مجردَ مشوارٍ و ينتهي :
- تمزحُ بالتَّأكيدِ ؟
و قبلَ أن يجيبَ، تركَها - كالعادةِ - تعبِّرُ عن كلِّ اعتراضاتِها :
- قلْ لي إنَّك تمزح...
و لما لم يقُلْ لها إنه يمزحُ، بل وقفَ مُسنداً ظهرَهُ إلى سيارتِهِ و مطأطئاً رأسَهُ بصمتٍ، انهالَتْ عليه بالأسئلة :
- ثم ماذا ؟ إنْ افترضْنا جَدَلاً أنكَ لا تمزحُ، سيكونُ هذا منـزلُنا أم منـزلُ اللُّصوصِ ؟ ألا يستطيعُ أيُّ لصٍّ، مهما كانَ عجوزاً، أن يتسلقَ عشرينَ متراً من كعبِ الوادي، أو يتزحلقَ ثمانينَ من قمةِ الجبلِ فتحميهِ الأشجارُ حتى في عزِّ الظَّهيرةِ فلا نراهُ إلا بيننا ؟
و لما لم يفُهْ بحرفٍ، قالَتْ :
- مَن فينا زرقاءُ اليمامةِ ليكتشفَ اقترابه ؟ هه ؟ أنا ؟ أبوك ؟ أنت ؟ كلُّ واحدٍ منَّا نظارتُه بسُمْكِ كعْبِ قنينةٍ....
هزَّ ظريف رأسَهُ موافقاً، فتشجعَت مشيرةً إلى سورِ الحديقةِ :
- و هذا السُّورُ المنخفضُ... اسمُه سُور ؟ اكتبْ عليه أن اسمَه سُور... سورُ الصِّينِ سورٌ...
قطبَ حاجبيْه :
- أمِّي.... قبائلُ الهَوْنِ اندثرَت مِن زمان... أكلَها الطَّاعونُ و التَّقاتلُ فيما بينها و...
و أسكَتَتْهُ بإشارةٍ من راحةِ كفِّها، ثم اقتربَتْ من السُّورِ لتطلَّ إلى الدَّاخلِ، بينما كانَ يمسحُ زجاجَتي نظارتِه السَّميكتين :
- اعذرْني يا ظريف.. لن يكونَ منـزلَ اللُّصوصِ فقط، بل منـزلَ الكلابِ و القِطَطَةِ الشّاردَةَ.
و رغمَ أنَّ ظريف يعرفُ مقدارَ حبِّ أُمِّهِ لقطِّهم الفارسيِّ الشَّانشيلا ( أبو الشُّوشْ ) الَّذي لم تعرف قيمَتَهُ المادِّيَّةَ وقتَ أهدَتْها إياهُ صيدلانيَّةُ الحيِّ، فحاكَتِ الحكاياتِ عن بخلِها، إلى أنْ عرفَتْ أنَّهُ غالٍ، و أنَّ مَن يقتنيهِ يكونُ شخصاً رفيعَ الذَّوقِ، فغفرَتْ لها، بل أحبَّتْها و قدَّرَتِ اختيارَها " الصّائِبَ " لها من بينِ كلِّ الجاراتِ اللَّواتي يقصدنَ صيدليتَها طمعاً بالحسمِ.
و يعرفُ ظريف أيضاً مقدارَ حبِّ أُمِّهِ لكلبِهم الأبيضِ الكانيش الصَّغيرِ ( كانوش ) الذي وجدوهُ تحتَ البنايةِ ضائعاً - فادَّعَتْ أمُّه أمامَ جاراتِها أنه جاءَها هديةً من فرنسا، من " صديقٍ " يطلُّ بيتُه على برج إيفل !
إلا أنَّ ظريف يعرفُ أنَّها تفرِّقُ بينَ المدلَّلِ و الشَّاردِ، و أنها لا تسمحُ أبدًا بمُخالطةِ ( أبو الشُّوشْ ) و ( كانوش ) برعاعِ القِطَطةِ و الكلابِ، فالمخالطَةُ عندها : خطٌّ أحمرُ، و تحتاجُ إلى مَنْ يردعُها ردعاً حازِماً جازماً، و هو أمرٌ مشكوكٌ فيه في هذا البيتِ الرِّيفيِّ المفتوحِ على كل احتمالاتِ الخطرِ.
حاولَ ظريف أن يوصلَ لأمِّهِ فكرةَ حمايةٍ تطمئنُها إلى أنَّ القطَطَةِ و الكلابَ الشَّاردةَ لا تجرؤُ على الاقترابِ من المنطقةِ التي يسكنُ فيها جارُهم " أبو بارودة "، لأنَّهُ متخصصٌ بقتلِها ببارودةِ الصَّيدِ الَّتي يمتلُكها، لكنَّه فكَّرَ بأنَّها لن تقتنِعَ أنَّ هذا الرَّجلَ الخطيرَ لا يشكلُ خطراً على ( أبو الشُّوشْ ) و ( كانوش )، بل و عليها و على زوجِها و ابنِها، و لو اقتنَعَتْ، فلنْ تقتنِعَ أن يكونَ جارُها الوحيدُ مجرماً يقتلُ الكلابَ و القططةَ الشَّاردةَ، و حتى الذِّئابَ و الثَّعالبَ، فهي ضدُّ فكرةِ العنفِ، و لا بدَّ أن يُسجَنَ رجلٌ حقيرٌ كهذا... و لا بدَ...
لذا، سكتَ عن الموضوع ِنهائيّاً، و شكرَ اللهَ أن جارَه في السّجنِ يقضي مدةَ عقابٍ بعد أن قتلَ كلبَ حراسةِ رئيسِ البلديَّةِ شخصيّاً؛ و عادَتْ أمّ ظريف مُهرولةً إلى السَّيَّارة ( دلال ) و تشبَّثَتْ بكرسيِّها قائلةً باقتناعٍ :
- رغمَ كلِّ سيِّئاتِ منـزلِنا القديمِ، لكنَّه على الأقلِّ محميٌّ تماماً ! الأمانُ يُشرى بالذّهَبِ.
سارعَ ظريف إلى شدِّ يد أمِّه لتنـزلَ، لكنَّها سمّرَتْ قدمَيْها داخلَ السّيّارةِ ( دلال )، فقالَ بسرعةٍ :
-لا أدري أيّ لصٍّ غبيٍّ يمكن أصلًا أن يقتحمَ منـزلَنا.. و ماذا سيجدُ فيه للسَّرقةِ ؟ هه ؟
و لما عجزَتْ عن إيجادِ الجوابِ، أنزلَتْ قدمَها اليُمنى إلى الأرضِ، فأعادَ رفْعَها إلى السّيّارةِ ( دلال ) قائلًا :
_ لا تنزلي قبل أن تجيبي !
و أسندَ بابَ السَّيارةِ ( دلال ) من الخارجِ بظهرِهِ، لكنها أصرَّتْ على النُّزولِ، فشدَّ يدَها نحو البيتِ الَّذي أراها بسرعةٍ غرفَهُ الثَّلاثَ المدهونةَ حديثاً و المُطلَّةَ شبابيكُها على الحديقةِ، ثم شدَّ يدَها إلى الحديقةِ قائلاً بسعادةٍ :
- إنها حديقتُنا الغَنَّاء !
(4)
ضحكَت أمّ ظريف ضحكتَها الَّتي تظهرُ من خلالِها لثَّتُها الفارغةُ من الأسنانِ الأربعِ ( صح ) الأماميَّةِ الَّتي تنسى وضعَ جسرِها المتحركِ كلَّما كانَت على عجَلةٍ من أمرِها، و قالَت هازئةً :
- الغنَّاء ؟ قلْ شيئاً ذا قيمة.
و لما لم يردّ، تابعَت :
- ألا تجدُ لها صفةً أخرى مختلفةً ؟ أقصد صفةً أخرى مُعاكسةً ؟ و كيف تكونُ غنَّاءَ و هي مجردُ مِساحةٍ صغيرةٍ من التُّراب الَّذي تملؤُه الحشائشُ البريَّة الَّتي..
قاطع ظريف أمَّه قائلاً :
ـ لا تتسرعي في الحكمِ على الأمورِ.. آه ! فهمْتُ الآن من أين ورثْتُ جيناتِ التَّسرُّع...
و أشارَ بسبَّابَته إليها مُتَّهِماً :
- منكِ أنتِ، و ليس مِن أبي....
و قبل أن تعترضَ فتقولَ إنها أبعدُ ما تكون عن التَّسرّعِ، فهي هادئةٌ جدّاً، كما يوحي اسمُها : سَكِينة، و كما تعتقدُ لا كما يعتقدُ ابنُها و زوجُها و جيرانُها جميعُهم، انحدرَتْ من الجبلِ إلى حيث يقفانِ سيارةُ والدِ ظريف المارسيدس ( هتلر )، التي ما زالَ يفخرُ أنها جديدةٌ، لأنَّهُ اشتراها قبل أربعين سنةً من " الشَّركة ".
و كانَ الرَّجلُ بطيءَ الحركةِ، بطيءَ الكلامِ، هادئَ الأعصابِ إلى درجةِ البرودِ، مع ذكاءٍ فطريٍّ فكاهيٍّ لا يظهرُ إلا لمن يعرفُهُ تمامَ المعرفةِ.
و يعتقدُ ابنُهُ أنه ورثَ حسَّ الفكاهةِ عن والدِهِ، و ورثَ الحركةَ التي لا تهدأ عن والدَتِهِ.
أغلقَ والدُ ظريف بابَ سيَّارتِهِ ( هتلر ) على مهلٍ، و اتَّجَهَ إلى البيتِ الجديدِ الَّذي يراهُ لأولِ مرةٍ بعد أن طوى الخارطةَ الَّتي سلَّمَه إيَّاها ابنُه صباحاً سرّاً، ثم وضعَها في جيبِه و وضعَ معها ( بوصلة ) أيضاً. و بعد أن تأملَ الحديقةَ بصمتٍ تامٍّ، أخذَ نفساً عميقاً و قال بصوتٍ بطيءٍ و عيناهُ ترقصانِ حبوراً :
- الله ! يا لها مِن حديقةٍ !
و كادَ ظريف يطيرُ فرَحاً لجملةِ والدِه، فتركَ يدَ أمه و اتجهَ نحوَ أبيهِ، فوضعَ ذراعَهُ وراء كتفِه و شدَّهُ نحوَه بفخرٍ، مُضيفاً و هو ينظرُ نظرةً ماكرةً إليها :
- غنَّاء....
ففكرَ الأبُ على مهلِهِ و هو يتخيلُ الحديقةَ بعد مرورِ الزَّمن عليها، ثم قال :
- غنّاءُ فعلاً !
و قبّلَ ظريف جبينَ أبيهِ ثلاثَ مرّاتٍ، بينما غادرَتْ أمُّه البيتَ نحو السّيّارةِ ( دلال ) و هي ترددُ :
- ما أصعبَ أن تواجِهَ وحدَكَ عصابةً !
(5)
لم يكن باستطاعةِ عائلةٍ غير هذه العائلةِ أن تسكنَ فعلًا في بيتِ ( كعبِ الوادي )، و ذلكَ لأن البيتَ في منطقةٍ مهجورةٍ إلا من بيتِ ذلك الجارِ العجوزِ الأرملِ السَّبعينيّ الَّذي يطلقُ عليه أهلُ القريةِ اسمَ " أبو بارودة " بعدَ أن أطلقوا عليه - على مرِّ الزَّمن - أسماءَ كثيرةً منها : " أبو قدَّاحة " وقتَ أَحرقَ أشجارَ الوادي كلَّها في إحدى الصَّيفيَّاتِ، و " الحَقَلَّد " نظراً لبخلِهِ الشَّديدِ و سوءِ أخلاقِهِ. كما دعوه : " أبو طبيبِ البلادِ الحارَّةِ " لأنَّ ابنهُ يعملُ ممرضاً في أفريقيا، بينما يصرُّ هو أنه طبيبٌ جرّاحٌ ماهرٌ استدعيَ إلى هناكَ للقضاءِ على الأمراضِ المُستعصيةِ. و لحُسْنِ الحظِّ، فإنَّ " أبو بارودة " يقضي معظمَ أيامِهِ في السِّجنِ.
و بالإضافةِ إلى المكانِ و الجيرةِ اللَّذين لا يقبلُ بهما إلا مُغامِرٌ أو " مَقطوعٌ "، أو فارٌّ من مصيبةٍ أكبر من رأْسِهِ، كانَ أبو ظريف قد باعَ دكانَ نجارتِهِ بعدَ اجتياحِ " بضاعةِ " المعاملِ السُّوقَ و وجودِها بأسعارٍ مُتهاودَةٍ، و وضعَ ثمنَهُ فوقَ ثمنِ " بيتِ بيروت " الذي اشتركَ و ابنَهُ في نصبِ شَرْكِ بيعِهِ من غيرِ أن تعرفَ زوجتُهُ، و ذلكَ لشراءِ هذا البيتِ، الذي بإمكانِهِ أن يسكنَ به طالما أنَّهُ لن يسلكَ دربَهُ الخطيرةَ إلا في المناسباتِ. كما أنَّ ظريف الَّذي أقفلَتِ مدرستَهُ أبوابَها قبل أسبوعٍ واحدٍ استعداداً لعطلة الصَّيفِ، قد نقلَ تدريسَهُ إلى مدرسةِ القريةِ الابتدائيةِ الَّتي يستطيعُ الوصولَ إليها " تسلُّقاً على قدميه " و من دونِ الحاجةِ إلى استخدامِ سيارتِهِ العتيقةِ ( دلال ) التي لم يكنْ يثقُ بقدرةِ مُحرِّكِها على الصُّعودِ من كعبِ الوادي إلى قمةِ الجبلِ حتى لو أقسمَ الميكانيكيُّ الَّذي تقضي معظمَ أيامِ السَّنةِ عنده الأيمانَ بأنها قادرةٌ على ذلكَ قدرةَ غزالِ الفَلا.
و لا ننسى أن البيتَ رخيصُ الثَّمنِ بسببِ مساحتِه الصَّغيرةِ، و بنائِهِ غيرِ المُتْقَنِ، و موقعِهِ المنحدِرِ، و طريقِ القادوميّة، و طبعاً، بسبب جيرةِ " أبي بارودة ".
لكنَّهُ - رغم كل مساوئِهِ - بعيدٌ عن الضَّجةِ الَّتي كانَ رجُلا البيتِ يعانيانِ منها في ذلك المبنى الشّعبيِّ في إحدى ضواحي بيروتَ المكتظّةِ، و الَّذي لا تكفي كلمةُ " بشع " لوصفِهِ و ساكِنيه، و الَّذي طالما هربَا من بين جموعِ الجاراتِ الدَّاخلاتِ الخارجاتِ، الآكلاتِ الشَّارباتِ، المُرحَّبِ بهنَّ بحفاوةٍ من قِبل أُمِّ ظريف الَّتي طالما فخرَتْ أن ركوةَ قهوتِها لا تنزلُ عن النَّار، والَّتي كانَ هدفُها في الحياةِ أولاً و ثانياً و ثالثاً : التَّسلية من خلالِ إيجادِ " جمهورٍ " يصغي إلى " مُبالغاتِها " و يصفِّقُ لها ظاهراً، بينما يضحكُ سرّاً في الاجتماعاتِ الجانبيَّةِ التي تُعقَدُ خارجَ بيتِها، فيدعوها : " أمّ نفْشة "، شأنهُ شَأن كلِّ الجماهيرِ التي تستفيدُ عادةً مِن عُقَدِ النَّفْشِ.
هنا، لا تسمعُ إلا صوتَ زقزقةِ العصافيرِ الَّتي ستترافقُ بعد سنواتٍ مع صوتِ زقزقةِ أطفالِ ظريف الَّذي يخططُ لبناءِ بيتٍ فوقَ بيتِ أبيه و أمِّهِ فيكون لديهم، كما أحبُّوا أن يسمُّوها :" فيللا "، رغم أنها لا تمتُّ إلى التّسميةِ بِصِلةٍ، و الَّتي أوصى ظريف صديقَهُ صاحبَ مكتبةِ القريةِ بحفرِ عبارةِ : ( فيللا الأستاذ ظريف ) على لوحٍ نحاسيٍّ يُلصَقُ فوقَ قطعةٍ خشبيّةٍ تثبَّتُ على بوابةِ الحديقةِ ليقرأها " الملايين " كما تقولُ والدتُه المغرمةُ بتضخيمِ الأمورِ، كلِّ الأمورِ.