المؤلف لينين الرملي استطاع في الجزء الثاني من ثلاثية "بخيت وعديلة" الذي حمل اسم "الجردل والكنكة" أن يحكي قصة "بخيت حنيدق المهيطل" و"عديلة صندوق" حينما ضاقت بهما سبل الحصول على شقة الزوجية فلمعت في رأسيهما فكرة الترشح للبرلمان من أجل الحصول على مكتسبات النواب البرلمانيين "شقة وسيارة"، ليخرج الرملي من هذه الحبكة البسيطة صورة كل القيم التي تنتهك من أجل الحصول على كرسي البرلمان، ويصيغ بقصته دروسًا يمكن لأي مرشح برلماني قادم أن يتعلمها ليكسب مبتغاه.
" frameborder="0">
على الرغم من أن "بخيت المهيطل" و"عديلة صندوق" كانا يمْثلان أمام القاضي للحكم في جنحة آداب بعدما تم ضبطهما بفعل فاضح بالطريق العام، إلا أنهما لم يترددا في التقدم بأوراق ترشحهما للانتخابات، وإغفال أن هذه القضية من شأنها أن تدمر سمعة المرشح تمامًا وبالتالي على حظوظه في الفوز بالانتخابات.
"رسمي بك" الذي جسده سعيد عبد الغني، قيادي عمالي فاسد، يستغل منصبه في التربح من أموال المصنع الذي يديره، وحينما يلجأ إليه "بخيت" ويكشف له الفساد الذي يجري في المصنع يتصنع الفضيلة ويوهم "بخيت" بأنه سيقف للفساد بالمرصاد إلى أن يتضح أن رسمي هو أساس الفساد.
هذا الرجل كان مرشح الحزب الحاكم في انتخابات النواب، ولا يقل عنه فسادًا "واصل بك" الذي جسده الراحل نظيم شعراوي الذي يسعى بكل الطرق -حتى الملتوية منها- لإبعاد "بخيت" و"عديلة "عن سباق الانتخابات، عرض عليهما رشوة، هددهما بالقتل، واستأجر بلطجية لضرب أحد منسقي حملتهما الانتخابية.
فكرة ترشح "بخيت المهيطل" و"عديلة صندوق" للبرلمان من الأساس جاءت حينما ضاقت بالخطيبين سبل الحصول على شقة الزوجية ومعرفتهما أن من يفز في الانتخابات يحصل من المجلس على شقة وسيارة وبالتالي أغفلا تمامًا المسؤولية الملقاة على عاتق عضو البرلمان من المشاركة في سن القوانين وصناعة مستقبل البلاد، وتلخص حلمهما في الشقة والسيارة، اعتبرا أن مدخراتهما القليلة حينما تنفق على الدعاية الانتخابية المتواضعة ستكون بمثابة استثمار لتحقيق الهدف.
لينين الرملي لم يكن مخطئًا تمامًا في وجهة نظره هذه لأن هناك نواب بالفعل يدخلون الانتخابات من أجل أغراض أقل أهمية بكثير من غرض "بخيت" و"عديلة"، فمنهم من يدخل من أجل الوجاهة الاجتماعية أو سعيًا وراء الشهرة، أو حتى من أقنعه أصدقاؤه أنه ذو شعبية جارفة فبإمكانه الحصول على المقعد بكل سهولة.
تخيل أن يكون الرمز الانتخابي لمرشحك المفضل دلوًا "الجردل"، أو أن يكون الرمز الانتخابي لمرشحة يهمك أمرها هو "الكنكة"، بالطبع الأمر غير قابل أصلًا للتصديق، فما بالك بمرشح يعرف نفسه للجمهور على أنه رمز "الجردل" ولا يستطيع الحصول على رمز آخر أفضل منه.
قبل ثورة يناير كانت الرموز الانتخابية تفرض على المرشحين لا يمكنهم تغييرها، مرشحو الحزب الوطني يحصلون على رمزي "الجمل والهلال"، ويحصل باقي المرشحين على أي رموز أخرى، لكن الوضع الآن اختلف قليلًا فالحصول على الرمز الانتخابي صار بأسبقية تقديم الأوراق، أي أن من يقدم أوراقه أولًا يختار الرمز الذي يفضله.
بعد أن خابت كل حيل منافسي "بخيت" في إثنائه عن خوض الانتخابات اتجهوا إلى ترويج شائعة وفاته ليلة الانتخابات، وبالتالي ذهبت أصوات الناخبين إلى منافسيه، ليخرج عادل إمام في اللحظات الأخيرة وقبل غلق الصناديق على رأس مظاهرة من مريديه يثبت للجماهير أنه لازال حيًا، لتتجه أصوات الناخبين الذين لم يدلوا بأصواتهم بعد إلى "بخيت" و"عديلة"، وينجحان بآخر ثلاثة صناديق.
نظريًا هذا ممكن ولكن بالنظر إلى نسب المشاركة الحالية في الانتخابات البرلمانية، لن يتمكن "بخيت" من الحصول على عدد كاف من المؤيدين ليخرج بمظاهرة تأييد تقنع الجماهير أنه لم يمت، الجماهير أصلًا لم تعد تهتم لأمر المرشحين.
تسمى هذه الظاهرة بمصطلحات العلوم السياسية "الرشاوى الانتخابية" فهي ليست مجرد عمل خير أو تقرب إلى الله أكثر ما هو استغلال لحاجة بعض الناخبين لأساسيات الحياة من مأكل وملبس، لرشوتهم بالمنتجات الغذائية وأهمها اللحوم، ليظل الناخبون يهتفون باسم المرشح الذي أطعم فمهم فتستحِ عيونهم إلا عن تأييده.
المشهد الأكثر إيلامًا في سياق "الجردل والكنكة" حينما انفض كل مؤيدي "بخيت" و"عديلة" من حولهما من أجل الحصول على "لفة اللحمة" التي يوزعها "رسمي بك" -جسده الفنان سعيد عبد الغني- على أهالي دائرته كجزء من الدعاية الانتخابية.
صديق "بخيت" اقترح عليه الذهاب إلى المنطقة التي ولد وتربى فيها، لم يسبقه إليها مرشح من قبل وبالتالي سيضمن تأييد معظم أهالي المنطقة، مساكن عشوائية مليئة بالقمامة من كل ناحية، الرجال عاطلون جالسون على جانبي الطرقات، والنساء كذلك أقل حدود الحياة الكريمة غير موجودة، ذلك الواقع موجود بالفعل في مصر وليس بالكامل من نسج خيال لينين الرملي.
يتعرض "بخيت" لمواقف كوميدية في المنطقة العشوائية ويهدده أهلها بالضرب، فيبرر لهم سبب وجوده بأنه مرشح للبرلمان وجاء ليعرف مشكلاتهم، ليرد عليه أقدم رجل في المنطقة بأن جميع سكانها ليست لهم أصوات انتخابية فوجوده بالمنطقة العشوائية لن يفيده بشيء، في مشهد يعد هو المشهد الرئيس بالفيلم، ونقطة التحول التي طرأت على أحداث الفيلم ككل.
الطبيعي في الدول الديمقراطية أنه حينما يكون الفرد مرشحًا لمنصب ما فإنه منفردًا أو بالاستعانة بفريق انتخابي يضع برنامجا انتخابيا وخطط قصيرة وطويلة المدى لتحقيق التطور والتنمية، هذا لا يحدث في مصر وبالتالي لم يرد ذكر أي ملامح لبرنامج انتخابي طوال أحداث الفيلم، وليرح بخيت ضميره تحدث عن مشكلات المنطقة العشوائية التي لا يملك أهلها أصوات انتخابية.
لذلك إذا أراد مرشح للبرلمان المصري أن يضمن فوزه في الانتخابات عليه فقط أن تجهيز الأموال وتحضير الأنصار استعدادًا لإغراق الشوارع بالدعاية التي تحمل اسمه وصورته والرمز ليطارد الناخب كلما رفع أو أخفض عينه، لا برنامج، لا رؤية، لا خطط، فقط الدعاية.
قائمة الأسماء المصرية مليئة بكل غريب وليس أغربهم "بخيت حنيدق المهيطل" أو "عديلة صندوق"، ربما يكون الاسم الغريب سببًا في شهرة المرشح حتى لو كان الاسم له دلالة سيئة، لذلك فمن يحملون أسماء غريبة كـ"عوكل أو البهظ أو زرزور" وما إلى ذلك من الأسماء لن تقف أسماؤهم عائقًا أمام ترشحهم للبرلمان طالما رؤوا زميلهم "المهيطل" وزميلتهم "صندوق" تحت القبة.
يكفي أن يسمع هؤلاء الهتاف الشهير: "المهيطل يا بلاش واحد غيره مينفعناش"
الجملة الأشهر في عالم السياسة ابتدعها نيقولا ميكيافيللي في كتابه "الأمير" دستور السياسيين على مر العصور، طبقها بخيت المهيطل في الحصول على دعم مادي لحملته الانتخابية من قبل بعض تجار المخدرات، ورغم علمه الكامل بسوء نوايا من يزودونه بالأموال، إلا أنه وافق على دعمهم من أجل الفوز في الانتخابات، مطبقًا نصيحة ميكيافيللي بالحرف.
مرشحو البرلمان لا يحتاجون توصية في هذا الشأن فدوما غايتهم تبرر الوسيلة، واعتبار السياسة حرب قذرة كل شيء فيها مباح يجعل معظمهم يستخدمون كل الوسائل مهما كانت النوايا السيئة التي تحيطها.