أربعة وعشرون فيلمًا خلال ستة وثلاثين عامًا، رقم مدهش طبقاً لظروف صناعة السينما المصرية ومتغيراتها، خاصة إذا ما عرفنا أن خان الذي بدأ مشواره على الطريقة الكلاسيكية بمنتج فرد يموّل الفيلم، يخوض في عمله الجديد تجربة مناسبة تماماً للعصر، هي التمويل الجماعي لمشروع منخفض التكلفة، بمشاركة سبعة منتجين يمثلون خمس جهات إنتاج، قامت جميعاً بتمويل فيلم يضم خمس ممثلين فقط، ولم يستغرق تصويره أكثر من شهر وفقاً لما قاله خان في الندوة التالية للعرض، أي أنه نظرياً فيلم مناسب تماماً لمموّل منفرد، لكن بالصياغة الإنتاجية المُختارة تنخفض نسب المخاطرة وبالتالي تزيد فرص الربح، وهو التعامل الذكي مع مُعطيات السوق، الذي يميز خان عن معظم أبناء جيله، وربما الأجيال التالية أيضًا
في "قبل زحمة الصيف" يكرر محمد خان تجربة لم يُقدم عليها سوى مرة واحدة من قبل طيلة مشواره السينمائي، وهي تصوير فيلم تدور أحداثه بالكامل خارج القاهرة، مدينته الأثيرة التي طالما ارتبطت سينماه بعوالمها وشوارعها، حتى في الفيلم النادر "يوسف وزينب" الذي قام خان بتصويره أحداثه في جزر المالديف، ظلت القاهرة حاضرة في بعض مشاهد الفيلم. المرة الوحيدة التي ابتعد خان كلياً عن القاهرة كانت عام 1993 في فيلم "الغرقانة"، وها هو يعود لتكرار نفس الخيار لكن بمعايير مختلفة.
الاختلاف هو أنه وبالرغم من أن أحداث الفيلم تدور بالكامل في الساحل الشمالي، في حكاية تبدو ظاهرياً عن خلافات أسرية وانجذابات عاطفية تؤججها العزلة، فإن العمل في جوهرة وثيق الارتباط بالعاصمة وما يجري فيها، سواء على المستوى المباشر للسرد بكون المكالمات والأخبار التي تأتي لأبطال الفيلم من القاهرة محركاً رئيسياً للحكاية، أو على المستوى الأعمق الذي يقوم الفيلم فيه بتوجيه نقد ذكي ولاذع إلى مجتمع العاصمة وما أفرزه من تفاوت طبقي، ينعكس على التكوين النفسي والعقلي والأخلاقي لشخصيات الفيلم الخمس.
الشخصيات الخمس في السيناريو الذي كتبته غادة شهبندر عن فكرة محمد خان مع مشاركة من نورا الشيخ في الحوار، هم طبيب كبير تلاحق المستشفى التي يملكها تهمة إهمال (ماجد الكدواني)، وزوجته الطبيبة المهووسة بالتأمل واليوجا (لانا مشتاق)، يقيمان في قرية ساحلية خالية بعيدا عن موسم الصيف، يزيد التوتر بينهما عندما تصل امرأة جميلة (هنا شيحة) لتقيم في شاليه مجاور لها، وسرعان ما ينضم لها حبيبها الممثل نصف المشهور (هاني المتناوي)، بينما يقوم بخدمة الجميع عامل صعيدي بسيط في القرية (أحمد داود).
المخرج يرسم بسرعة وبإتقان ملامح كل بطل من أبطاله، وسرعان ما يصبح المشاهد متفهماً لطبيعة الطبيب يحيى المائلة للتلصص (والتي يتم التعبير عنها عبر تكوين لقطات رصده لجارته الجميلة)، لطبيعة الجارة هالة التي تجمع بين الهرب والخوف من أعين الآخرين وآراءهم، الزوجة ماجدة الساعية لإخماد نار ثورتها على تصرفات زوجها، الممثل هشام باستغلاله المادي والجسدي واستخدامه الغضب كسلاح لتفادي المواجهة، وقبل كل هذا العامل جمعة الذي تروى الأحداث بشكل ما من وجهة نظره، بطيبته وتقديمه العون للجميع، مع نزعة أخلاقية هي وليد طبيعي لجذوره ونشأته.
الفيلم ينجح إذن في أهم عامل تقييم لحكاية تحركها الشخصيات character-driven وهو البناء المحكم والواضح لأبطال الحكاية، سواء على مستوى الكتابة، أو العثور على بعض الحلول الإخراجية المناسبة للشخصيات، أو الأداء التمثيلي الذي يظهر فيه بشكل خاص ماجد الكدواني وأحمد داود وهنا شيحة، والأخيرة تستحق تحية خاصة على شجاعتها في أداء دور يمكن بسهولة توقع رفض معظم النجمات للعبه، في ظل تبعات المصطلح الأحمق "السينما النظيفة"، الذي ذهب وبقيت آثاره، فصار قيام الممثلة بمتطلبات عملها وصمة عار ومخاطرة تحاول نجمات كثيرات تفاديها خوفاً على تأثر شعبيتهن!
أصحاب الشاليهات هم الطبيب وزوجته والجارة، المنتمين لطبقة كانت من أوائل المُلّاك المؤسيين للقرية السياحية، بينما الممثل ينتمي لطبقة اجتماعية أدنى، وإن كان حالماً بالترقي المادي حتى لو كان ثمنه ممارسات غير أخلاقية، بينما يقف جمعة وحده ممثلاً لعالم مختلف كلياً عن الأربعة، الذين يختار الفيلم أن يقدمهم جميعاً بصورة مشوهة، فمهما تعاطفت مع وحدة هالة أو أضحكتك تصرفات يحيى، سيظل من المستحيل أن تعتبر ما يعيشه أي منهم حياة سوية، بل أن ضعفهم يظهر بوضوح لاذع في بعض العبارات والأفعال.
أما جمعة، فهو على النقيض، إيجابي ومبتسم، يقدم الخدمات بحب ويرضى بالفتات، ينجذب نحو السيدة الجميلة ويبقى حبه مجرد حلم في خياله، وبالرغم من أنه أكثر شخص يمتلك أسباباً كافية لكراهية الآخرين، إلا أنه الوحيد الذي لا يمتلك أي ضغينة تجاههم أكثر من أن "همّهم على بطنهم". ناهيك عن كونه هو الشخصية الوحيدة المُنتجة في الفيلم، التي تقوم بأفعال مفيدة حقاً لنفسها وللآخرين، ورغم أنه الأصغر سناً إلا أنه قطعاً هو الأنضج وسط كبار يتصرفون بأنانية وانعدام تقدير مشابه للأطفال.
أفضل ما في الطرح الاجتماعي السابق أنه يأتي بشكل خافت ومبطن، قد لا ينتبه له من يشاهد الفيلم في إطار حكايته فحسب، لا توجد أي عبارات رنانة أو مونولوجات متقعرة، فقط قصة بسيطة لشخصيات يمكن أن تأولها بهذه الصورة أو تتعامل معها فقط باعتبارها كوميديا رومانسية خفيفة وغير معتادة.
"قبل زحمة الصيف" عودة متجددة لمخرج شاب في الثالثة والسبعين من عمره، لا يزال حتى يومنا هذا طفلاً لعبته هي السينما، يجرب في أشكالها الإنتاجية والسردية، ويحكي قصصه المُفضلة حتى لو كانت مختلفة عمّا ينتظره الجميع منه، فالأهم هو الحكاية التي يريد خان أن يرويها، سواء كانت في القاهرة أو في قرية صغيرة على ساحل المتوسط.
شاهد- الإعلان الدعائي الأول لفيلم "قبل زحمة الصيف" (٢٠١٥)
#قبل_زحمة_الصيف.. تشتعل الرغبات الممنوعة
Posted by فيلم قبل زحمة الصيف Before the summer crowds on Tuesday, 1 December 2015مقالات أخرى للكاتب
- فيلم افتتاح مهرجان دبي السينمائي: "غرفة".. ثلاث حكايات وثلاث نقاط تميز
- "يا طير الطاير": محمد عساف على طريقة أبو أسعد.. إلا قليلًا
- "فيلم كتير كبير".. المخدرات والسينما على الطريقة اللبنانية
- "الجيل الرابع".. درس لم يتعلمه أحمد نادر جلال من هيتشكوك
- "أهواك".. والفروق الأربعة بين الفيلم والفيديو كليب
- لماذا نجح "الرجل العناب" وفشل "حياتي مبهدلة"؟
- "ولاد رزق".. قيمة الحرفة وسحر الجوّ العام
- "سكر مر" وثلاث خطوات للأمام بعد "سهر الليالي"