هناك، على بوابته، سيستقبلكم عم حبيب الله، وهو يدخلكم إلى جنته، حيث لا مكان للأحكام الشخصية ولا الأخلاقية، حيث لا تعالي ولا تنظير، حيث يقبل الجميع بعضهم البعض على اختلافهم، حيث يتوقف الزمن عند إسكندرية جميلة محملة بروائح النوستالجيا، والتي لم يعد لها –ويا للأسف- أي أثر في الواقع الحالي.
أول انطباع تركه عندي فيلم الأستاذ داود عبد السيد، كان تساؤل "هي بجد إسكندرية لسة حلوة كدة؟"
اختار الأستاذ داود الإسكندرية في الشتاء، بكامل بهائها وهدوءها وروقانها وخلوها من البشر، لكن، حتى في اختياره لأماكن التصوير، من مطاعم وكافيهات مازالت تحمل عبق الماضي الذي اختلط فيه المصري بالجريكي بالطلياني، أكاد أكون ركبت آلة الزمن معه، فهذه الأماكن التي أتردد عليها مراراً بمحطة الرمل، لم تعد بمثل هذا الجمال والشياكة، أم أن أعيننا هي التي –ربما- اعتادت القبح فلم تعد تميز الجمال حينما تراه؟
في مشهد، تخلع حياة –والتي أدتها الجريئة والمثيرة نجلاء بدر- ملابسها لتكشف عن مايوه أزرق، تنطلق به داخل بحر شديد الزرقة، من ورائها شبابيك البنسيون الرزقاء وطلاء الحائط فاتح اللون الرائق، والنباتات الخضراء، نراها تسبح في البحر بحرية، محاولة كبت جماح رغبتها في يحيى، كما كبتت قدراتها الخارقة فيما مضى.
الفيلم دعوة لكل المختلفين، نداء أخير لهم، أن اجتمعوا قبل أن يجتاحكم طوفان الجهل والثوابت والغيبيات، اجتمعوا فإن في وحدتكم قوة، وفي قوتكم وحدة، ولا تسقطوا أعباءكم على بعضكم البعض، فاختلافكم رحمة، والنار التي بداخلكم، والتي يراها الآخرون من إبليس، ماهي إلا شعلة دلفي المقدسة، عليكم حراستها كما تحرسون فريدة –الطفلة المعجزة مريم تامر- المتوهجة جنوناً واختلافاً وطفولة وطاقة لم تلوثها المعرفة، المعرفة التي ينساق إليها جميع أبطال داود تقريباً فلا تحرقهم، ولا يجدونها مهما أضناهم البحث.
من الطبيعي أن يعمل داود، وهو فيلسوف من فلاسفة السينما وليس فقط مخرج ذو أسلوب شديد الخصوصية والتقنية العالية، على ألا يعطي إجابات للأسئلة الكثيرة التي يطرحها في أفلامه، بل إنه حتى لا يعطي شعور بالربوبية، فكما يقول ألفريد هيتشكوك، "في الأفلام الروائية المخرج هو الرب، لكن في الأفلام التسجيلية، الرب هو المخرج". لكن داود لا يفعل هذا، رغم انتمائه كلياً لسينما المؤلف، إلا أنه حتى يحجم عن طرح حلول أو استنتاجات، هو يترك للشخصيات حرية التصرف بعيداً عن سطوته، فتنبع النهايات عن قراراتها شديدة الخصوصية، ويترك المشاهد يتساءل عما إذا كان ما فعلوه هو الصواب، وأن ما وجدوه في النهاية هو حقاً ما ينشدون؟
على صعيد آخر، يبدو الخط المتعلق باختيار حياة وفريدة، امرأة وطفلة ينتميان لعالم الأنوثة بكل تعقيداتها في مجتمع شديد الذكورية، حتى على مستوى الشخصيات المتحررة فيه (راجع خوف حياة من نظرات ساكني البنسيون لو عرفوا بعلاقتها بيحيى، وظن يحيى أنه هو الذي كان يمتلك القدرات غير العادية، وبالتالي ما قدرات حياة وفريدة إلا انعكاس لقدراته هو؛ الذكر)، شديد الاحتفاء بالمرأة على طريقة داود، والتي تتخذ من الجسد مركزاً للا للتشييء وإنما للانعتاق.
يذكرنا حديث حياة عن قمعها لقدراتها، ومحاولتها المستميتة أن تندمج مع المجتمع فتفعل مثلما يفعل، وتتصرف كما يتصرف، وفقدانها لقدراتها الذي ربما أراحها لكنه زادها تعاسة، بكتابات الباحثة الاجتماعية كلاريسا بنكولا إستس عن المرأة الوحشية، تلك المرأة الحقيقية التي لا تقمع رغباتها ولا جموحها ولا مشاعرها، وكيف أن قمع المجتمع لها ينتج في النهاية عن تدميرها ذاتياً، فإما تذوى وتنطفأ (الاكتئاب الحاد الذي عانت منه فريدة) أو تتخلى طوعًا عما تمتلك فتحيا جسداً بلا روح (دموع حياة وهي تمارس الحب مع يحيى بعد سنوات من التبتل).
لكن، على عكس حياة التي استسلمت، تقاوم فريدة، حتى يحيى استسلم، وفقد قدراته، ربما لعدم إيمانه بها، وربما أصابه الإحباط لفقده حياة وفريدة. لكن فريدة، بروح الطفل العابثة المتمردة، استبقت قدراتها، كامنة حبيسة نفسها، فإذا هي الشمس التي تهب البنسيون وسكانه الحياة، وإذا هي الموطن الذي يتلاقى عنده المشوهون والغرباء –كان السيرك المتنقل أشبه في رمزيته بالعروض المفزعة (Freak Shows) التي كانت تقام في أمريكا وبريطانيا في القرن التاسع عشر، وهو معرض يجمع بشر من الغرباء خُلقاً وخَلقاً- من لاعبي السيرك المتنقل، والذين تتم مطاردتهم بالحجارة تحت إمرة المتطرفين. فريدة هي النغمة التي جمعت بين المنشد الديني ومغني الأوبرا العجوز، هي اللوحة التي أضنت أستاذ الفنون الجميلة، وهي المرأة التي أضنت المخرج الإيطالي بحثاً حتى وجدها في ميناء الإسكندرية، وهي الشرارة التي أعادت لحياة قدراتها ولو للحظة بينما هي تبكي بين ذراعي يحيى.
"قدرات غير عادية" فيلم يستنزف روحك ببطء، فتكاد من فرط الجمال تذوب.
" frameborder="0">
خالد أبو النجا لـFilFan.com: النقاش أصبح "قدرة غير عادية" خلال السنوات الأخيرة
بالفيديو- نجلاء بدر لـFilFan.com: دوري في "قدرات غير عادية" أكثر واقعية.. والله خص المرأة بالإغراء
٥ صور من العرض الخاص لفيلم "قدرات غير عادية" بالقاهرة
شاهد- محمود الجندي أثناء تسجيله أغاني فيلم "قدرات غير عادية"
شاهد- حسن كامي أثناء تصويره فيلم "قدرات غير عادية"
شاهد- إيهاب أيوب أثناء تصويره فيلم "قدرات غير عادية"
بالصور- أبطال "بتوقيت القاهرة" و"قدرات غير عادية" في عروضهما الأولى بمهرجان دبي السينمائي الـ11