عندما سُئل الأطفال الذين وصلوا إلى الحلقة الختامية من برنامج The Voice Kids مساءَ السبت عن أمنياتهم مع مشارفة مغامرتهم التلفزيونية على الانتهاء، ردّ معظمهم بأنهم يتمنّون لو أنّ البرنامج لا ينتهي. ومن المؤكّد أنّ الشريحة الكبرى من الجمهور العربي تمتمت في تلك اللحظة مع تلك الأفواه الصغيرة أمنيةً بريئة بأن تبقى تلك الفسحة التلفزيونية المختلفة والوازِنة بجمالها وبراءتها موجودةً على شاشاتنا لتشكّلَ فسحة أمل بالطفولة والجمال والفنّ والطرب.لن يكون سهلاً التكيّف مع سهرات السبت التلفزيونية بعدما انشدّ العالم العربي بشكل أسبوعي إلى مواهب أطفاله التي انفتحت لها الأفواه انذهالاً بقدرات جيل يهوى الطرب ويتقن الغناء الأصيل ويتفنّن بتطريب الكلمة والحرف والنفَس، حتى كادت أنفاسنا تنقطع معه ومع كلّ موّال وأمنية وتنهيدة.
لن يكون سهلاً التعوّد مجدداً على خواء شاشات لم تقدّم في السنوات القليلة الماضية أيَّ شعور بالدهشة يُذكر. يُقال إنّ الفنّ الحقيقي هو القادر على إثارة الدهشة في النفوس، في هذا السياق لا بدّ إذاً من اعتبار أطفال The Voice Kids التحفة الفنّية التي زيّنت صدر شاشتنا العربية لهذا الموسم.
عشراتُ المقالات، نسبُ مشاهدة خيالية وبيوتٌ عربية تنتظر، تترقّب، تتابع، تتحمّس وتصوّت. لم ينقضِ الموسم الأوّل من برامج المواهب الشهير بنسخته العربية الأولى من دون أن يُحدث شرخاً كبيراً بين ما سبقه وما سيليه من مضمون إعلامي يقدَّم للمشاهد العربي.
اتضحّ أنّ الأطفال لم يولدوا فقط ليكونوا أرقاماً خاوية على شاشاتٍ لا تشتمّ رائحة الموت. تبقى عيونٌ ذارفة ولا يتبدّل مشهد أو تزول ساحة حرب. لن يصبح البحر أكثرَ حنواً على الأجساد الطريّة أو التراب أكثر رأفةً بالأحلام المطمورة أو الضمير الإنساني أكثر وعياً إزاءَ الجرائم المرتكبة ضدّ الطفولة بأرقام مخيفة ووتيرة غير مسبوقة.
في عالمنا العربي أطفال يغلقون الجفن مرّةً أخيرةً كلّ يوم تحت وقع القصف والدمار، وفي المقلب الآخر أطفالٌ يغلقون أعينهم ليُسلطنوا طرباً وفنّاً وجمالاً، ليفتحوا أعيننا على الجمال الذي ما زال موجوداً في منطقتنا وعلى الطفولة التي تُعدّ ثروتنا الحقيقية وأملنا الوحيد.
هذه الطفولة استيقظت على مسرح The Voice Kids لتستيقظ معها طفولتنا نحن، وببراءتنا الأولى واستمتاعنا البدائي والأساسي والحقيقي بما هو جميل لا بما يبهر النظر ويخاطب الغرائز.
بعد هذا الموسم الحافل، يمكننا ربما أن ننقطع عن مشاهدة التلفزيون لعامٍ أو أكثر، ربما نكتفي بما التقطته أعيننا من جمال وآذاننا من طرب، فنقرّر أن نقاطِع برامج الحوارات "غير الفنّية" أو الفيديو كليبات "البورنوغرافية" التي تغزو الشاشات أو البرامج الفضائحية الزاحفة خلف نسب مشاهدة وهمية.
مع كلِّ إيماءة يدٍ صغيرة متحمّسة، وتمايل خصر نحيل وفستان ملوّن، مع كلِّ رمشة عين من عيون أطفالنا الموهوبين ومع صدى أصواتهم التي فرضت هيبتها وحضورها الآسر، جمعنا كنوزاً من المشاهدة والمتعة.
إبنة الميناء
لين الحايك إبنة الميناء الجميلة التي فازت بلقب الموسم الأوّل أهدت مدينتها طرابلس ومعها لبنان والعالم العربي كله قشعريرة الإحساس بصوتٍ أعاد "ذكرى" الطرب الجميل إلى الأذهان. بإحساسٍ كبير ملأ المسرح ويدين مرفوعتين وكأنهما تلتقطان السحر لتنثراه دهشةً في الأجواء، أدّت رائعة الفنانة الراحلة ذكرى "كلّ اللي لاموني" بإتقان قلّ نظيره وإحساس انسكب في كلّ نوتة ونفَس.
لا تقلّ عنها موهبة أمير عاموري بحضوره وأدائه الطربي بتقنياتٍ تغيب عن معظم فناني اليوم والذي لا بدّ للمسارح أن تبتسم مجدداً لصوته الهادر.
أما زين عبيد، الذي زيّن أجملَ الأغنيات الطربية بتلويناتِ صوته المتمكّن وقوّة حضوره وحمرة الوجنتين اللتين زهّرتا قبلاتٍ على الشاشات، فهو بدوره فائز وإن لم يفز.
ولا ننسى غدي بشارة صاحب الإطلالة الواثقة الذي يغنّي بانسجامٍ عالٍ وكأنه ينخطف عن المسرح، أو ميرنا حنّا التي حوّلت وجعَ العراق مواويلَ وآهات، أو جويرية حمدي التي تغندر صوتها بين أجمل النوتات، أو أحمد السيسي الذي أسر القلوب، أو غنى بو حمدان التي بكت وبكى معها الجمهور، أو نهيلة القلعي التي أنستنا "أسامينا" أو نور قمر التي ما كنّا لنتمنّى سوى رضاها ليبقى الجمهور مسلطناً على أدائها الاستثنائي في أغنية "برضاك" أو سهيلة بهجت التي أشعّت احترافاً بأدائها لأغنيات كوكب الشرق.
The Voice Kids فضح توقنا للأصالة وبحثنا عن الجمال ونفورنا من النفايات الفنّية الطافية على سطح الساحة العربية. ظهّرت أصواتُ هؤلاء العمالقة الصغار الهوّة المهولة بين مواهبهم العظيمة والقعر الذي وصلت اليه النسبة الأكبر من الانتاجات الموسيقية الرتيبة والأصوات التي تتنافس في النشاز، ما يدعو إلى إعادة حساب كلّ ما يُقدَّم للجمهور وما يتقبّله هذا الأخير سواءٌ من محتوى إعلامي أو مستوى فنّي، فهل نرضى بعد اليوم بأن نعود إلى الوراء؟