في الطريق الطويل لمسرح الصوت والضوء، أفكر في سعر التذكرة الذي بلغ 600 للجالسين و300 جنيه للواقفين، أنظر بين الحين والأخر إلى كلمة "Standing" على وجه التذكرة محدثا نفسي أن الأمر يستحق بالتأكيد، أمر على 3 نقاط للتفتيش شاهرا التذكرة بيدي اليسرى ليقول لي أحدهم على أول نقطة تفتيش "أنا مالي بالتذكرة!، ادخل أسهر وأنبسط" بلهجة لا تدعو إلى الاستمتاع على الإطلاق، بعد عدة مرات من "افتح شنطة العربية"، أخيرا أغادر السيارة مسرعا حتى ألحق ببداية الحفل.
(2)
أعدل من وضع "البابيون" أثناء مغادرتي السيارة، متذكرا أن حفل ياني كان حضوره بالزي الرسمي، تحايلت على الوضع بارتداء زي نصف رسمي وتمنيت ألا يلاحظ أحد من المنظمين أني أرتدي حذاء رياضي، كان من المستحيل الوقوف كل هذا الوقت بحذاء كلاسيكي، وبمجرد وصولي كان واضحا أن الزي الرسمي ليس شرطا أساسيا لحضور الحفل، فتحررت من "البابيون" سريعا حتى لا أبدو غريب الأطوار.
(2)
ربما تظن أن ضيق الحال يحرمك من متاع الدنيا، لكن في حفل إبراهيم معلوف، ينتصر المنظمون للفقراء، لو افترضنا أن دفع 300 جنيه في تذكرة لحفل موسيقي هو درجة من درجات الفقر، تقف أنت أمام المسرح مباشرة، ويجلس من دفعوا الـ 600 جنيه بعيدا جدا، يفصلهم عن المسرح أكثر من 300 متر، عدالة السماء التي تحدث عنها كابتن محمود بكر تنزل من جديد لكن تلك المرة على مسرح الصوت والضوء بالقاهرة.
(3)
الحضور الأمني المكثف والتنظيم الدقيق يجعلك تصل إلى المكان الذي تنوي الوقوف به سريعا، تنظر إلى الساعة عدة مرات، وتنظر على المسرح الذي اعتلاه منسق الأسطوانات الذي يصيح من حين إلى آخر "إبراهيم" ليرد الجمهور "معلوف" في محاولة لإشعال الأجواء المستقرة المنتظرة صعود نجم الحفل، في هذه الأثناء يظهر عازف الإيقاع دانيل صايغ، ليشارك منسق الأسطوانات فقرة من القفز غير المبرر حول الآلات الإيقاعية لمدة 15 دقيقة، أحمد ربي على انتهائها، حسنا معلوف على وشك الصعود أخيرا متأخرا أكثر من ساعة، مغفل هو من يظن أن هناك شيء سيبدأ يوما ما في ميعاده في هذا البلد.
(4)
على يسارك، وأنت تنظر إلى المسرح، هناك أحد متاجر بيع القهوة الشهيرة، الزحام عليها يجعلك تظن أن القهوة شيء عزيز بيعه في القاهرة، بمجرد ظهور معلوف على المسرح خف الزحام قليلا، فوجدت أقدامي تقودني إلى هناك، لأحصل على القهوة غير مميزة في شيء سوى أنها يمكن اعتبارها في صحبة معلوف، لا أعلم لماذا نظرت لأبو الهول فلمحت شبه ابتسامة على وجهه (صدقني احتوى الكوب الذي في يدي على قهوة فقط).
(5)
يوجه معلوف حديثه للحضور بالإنجليزية والعربية الضعيفة وسط ترحيب شديد من الجمهور الذي ينتمي إلى البلد التي لا تحتفي بالموسيقيين، مازال نجاح عمر خيرت محل حيرة في الوسط الموسيقي بالكامل، ينتقل معلوف بين "الكيبورد" والترومبيت في تناغم شديد، بعد ذلك يُعلم الجمهور طريقة معينة من الصياح تتماشى مع مقطوعته القادمة فيتعلمها الحضور سريعا ويحيهم معلوف في النهاية على أدائهم الجيد، بالتأكيد استمتعت بدرجة ما إلا أنني كنت مترقب لحظة الحفل الأهم، التي لم تأت أبدا.
(6)
ينوه معلوف عن مفاجأة الحفل، فيتناقل الجمهور سريعا "هبة طوجي هنا وهتغني معاه"، سمعتها عدة مرات من حولي، حتى كشف معلوف عن مفاجأته والتي كانت مشاركة بعض العازفين المصريين من "الكونسرفتوار" لأحد مقطوعاته، الحضور غير الكثيف أتاح لي حرية الحركة، لدرجة أنني ذهبت إلى هؤلاء الذين يجلسون بعيدا نتيجة دفعهم للـ 600 جنيه، فوجدت أنهم يشاهدون أشباح تتحرك على المسرح.
(7)
بعد ساعة من العزف يعلن معلوف عن نهاية الحفل وسط عدم تصديق الحضور، ليقدم ما يمكن وصفه بعرض الطبول، شاركه فيه العازفون الثلاثة الأساسين بفرقته، ربما قلل العرض من حنق الحضور، خاصة وأن معلوف نجح منذ اللحظة الأولى في صنع حالة من الألفة بينه وبين الجمهور الذي يعزف أمامه للمرة الأولى.
(8)
أخرج من الحفل غير متأكد من حقيقة مشاعري، أحاول تصور كيف يأتي معلوف إلى مصر ولا يعزف أي مقطوعة من ألبومه الأخير "كلثوم" الذي أحتوى على عدة مقطوعات من أغنية "ألف ليلة وليلة"، هل من المعقول أن تزور مصر لأول مرة ولا تعزف أحدث وأقرب ألبوماتك إلى هذا الجمهور؟ لو كان عزف أي مقطوعة من ألبوم "كلثوم" لكان الحضور بأكمله سيغني من تلقاء نفسه بدلا من محاولات معلوف تعليمهم الصياح ليتجاوبوا مع مقطوعاته، أخرج من حدود الأهرامات ثم أوصل الهاتف المحمول بكاسيت العربية وأسمع في رحلة العودة ألبوم "كلثوم" كاملا.
" frameborder="0">