تجلس في ركنك المفضل بمنزلك واضعا سماعاتك في أذنك، تجلس جلسة مريحة، بعد أن تأكدت من نوم كل أفراد المنزل وتجاوزت عقارب الساعة منتصف الليل، ثم تضغط على زر التشغيل في هاتفك المحمول في نفس الوقت الذي تغمض فيه عينيك لتحصل على الظلام الدامس اللازم للتركيز، ثم تبدأ النغمات في الانسياب إلى روحك، بعد ثوان يلفت انتباهك صوت إحدى الآلات، فتفتح عينك لتقع على الساعة فتراقب حركة عقرب الثواني والأغنية مستمرة في الخلفية، ثم تنظر إلى قدمك وهي تتحرك مع ضربات الإيقاع، وهكذا تدور عيناك في فلك الركن الذي تجلس به حتى تنتهي الأغنية.
#شريط_كاسيت- وداع لابد منه
#شريط_كاسيت.. أغنية الجيل
هذه الجلسة غير المريحة، مع بداية الأغنية الثانية تكتشف أنها حزينة فتتحرك سريعا باتجاه المطبخ لصنع مشروب ساخن يناسب حالة الشتاء وطبيعة الأغنية، وبينما تنتظر غليان المياه تتصاعد خطوط الوتريات فتشعر بقشعريرة تجتاح جسمك ويلمس روحك البرد، فتحاول أن تقف على أرض المطبخ الباردة بقدم واحدة على أن تضع القدم الثانية فوقها، تنتهي الأغنية قبل أن تعد مشروبك الساخن، وتبدأ الأغنية الثالثة وأنت تتحرك إلى ركنك المفضل مرة أخرى.
هذه المرة لن تغمض عينيك، ستراقب البخار المتصاعد من كوب مشروبك الساخن، فتتذكر شيء ما عن مدرس العلوم في المرحلة الابتدائية، ثم تكتشف أن الأغنية قاربت على الانتهاء دون أن تميز كلماتها جيدا، لكن بها ما سيجعلك تسمعها مرة أخرى بحثا عن شيء ما، خصوصا أن الكمنجات كانت بديعة واستطاعت ملامسة روحك.
في الأغنية الرابعة تتذكر كيف كان طقس استماعك لشرائط الكاسيت قديما، كان لطرح الألبومات رهبة، بين الانتظار أمام متاجر بيع شرائط الكاسيت، والحصول على ملصق دعائي هدية بعد أن أصبح سعر شريط الكاسيت ٧ جنيهات ونصف، ثم العودة إلى المنزل سريعا، لفض بكارة الشريط ونزع الغلاف البلاستيكي من على علبة الشريط، ثم إخراج الغلاف وفرده ليتسنى لك مشاهدة صورة كبيرة لنجمك أو عدة صور له، تنظر إلى أسماء المشاركين في صناعة الألبوم من شعراء وملحنين وموزعين وموسيقيين راسما بخيالك قصص أسطورية عن هذه التوليفة، متخيلا نجمك المفضل وكأنه محمود الجوهري يصنع تشكيلة منتخب مصر.
الأغنية الخامسة تثير في قلبك الشجن، تذكرك بحبك الأول وأول شريط كاسيت أهديته لمن تحب. شريط الكاسيت كان يصلح كهدية. ذات يوم طلبت من أحد أصدقائي أن تكون هديته لي في عيد ميلادي شريط كاسيت يحمل اسم "يا قمر" لرغد، أما عن سبب اختيار هذا الألبوم تحديدا، فلم يكن سوى أن خطتي الاقتصادية لم تكن تسمح بشرائه.
مع هذه الأغنية تبدأ في استطعام مشروبك وما صنعته يداك، قديما كان الفضول يقودك لمحاولة معرفة صناع الأغنية قبل أن تبدأ، مع الوقت ستضبط نفسك بالتحيز مع أو ضد شاعر بعينه أو ملحن، فتميل إلى حب أو كره أغنيات لا ذنب لها سوى انها تحمل توقيعه، فيكون قرارك النهائي هو الاستماع دون معرفة صناع الأغاني، والتعرف عليهم في نهاية الرحلة، قرار يبدو سهلا في البداية لكنك ستعاني وأنت تحاول أن تستنتج من العبقري الذي كتب كلمات هذه الأغنية أو صاحب الموسيقى في تلك الأغنية.
كان الرقم ١٠ هو الغالب على الألبومات الموسيقية لفترة طويلة، الرقم الآمن لعدد أغاني أي شريط كاسيت، والوصول إلى الأغنية الخامسة يعني أن زر "البلاي" الذي يشير يمينا سيرتد في وجهك حالا لتقوم من جلستك المستقرة لتخرج شريط الكاسيت وتقلبه للحصول على أغاني الوجه الثاني.
في مرحلة متقدمة ستصبح صاحب كاسيت حديث وهذا معناه أنك لن تغير جلستك سيفعل الكاسيت اللازم ويبدأ الوجه الثاني من نفسه، فزر "البلاي" مرسوم فوقه إشارة لليمين وأخرى لليسار دلالة على قدرة هذا الجهاز على قراءة الشرائط في الاتجاهين دون الحاجة إلى قلب الشريط، انتهاء الوجه الأول مثل الحصول على راحة إجبارية أثناء سفرك، شريط الكاسيت يجبرك يمنحك استراحة لالتقاط الأنفاس وربما اختلاس النظر إلى الغلاف لمعرفة صناع الأغاني الـخمس الأولى.
الآن يبدأ الوجه الثاني بالأغنية السادسة، في عهد شريط الكاسيت كانت جودة الأغنية الخامسة آخر أغنيات الوجه الأول، تصب في مصلحة الأغنية السادسة أول أغنيات الوجه الثاني، فبعد الاستماع عدة مرات للشريط بالكامل، يمكن أن يقودك عدم حبك للأغنية الخامسة إلى تجاوزها بقلب شريط الكاسيت والاستماع إلى الوجه الثاني، في البداية قد تلجأ إلى زر العودة إلى الخلف لتبدأ الاستماع إلى الوجه الثاني من بدايته، لكن مع الوقت وبفعل الكسل ستحدثك نفسك بأن الأغنية السادسة ليست جيدة ولا داعي للاستماع إليها، وبهذا يتقلص عدد أغنيات الألبوم إلى ٨ بضربة واحدة.
الأغنية السابعة تبدأ ومازالت ذكرياتك مع شريط الكاسيت مستمرة، جودة الصوت عامل من أهم عوامل الحكم على الأغنية، قد تحتاج إلى ذهن صافي حتى تستطع الاستمتاع بأغنية تسجيلها سيء، وهو ما يؤثر سلبا في حكمك على عدد لا يستهان به من الأغنيات في عصور ما قبل "الديجيتال"، في عصر شريط الكاسيت عندما كنت تشعر بأن الصوت به مشكلة ما، تخشى أن "يسف" منك شريط الكاسيت فتخرجه سريعا، ثم تضربه عدة مرات، وتعيد تشغيله مرة أخرى لتجد أن الأمور عادت إلى طبيعتها، أما إن حدث كارثة "السف" فهناك مرحلتان الأولى: اللحاق بالشريط قبل أن يتمزق، وفي هذه الحالة تخرج الشريط من الكاسيت بهدوء، وتحاول باستخدام قلم أن تعيد لف الشريط حول البكرة الخاصة به، أما في حالة القطع فيمكنك استخدام "المانكير" لإعادة لصقه، لكن ذلك سيترك أثر لا يختفي عبر السنين.
الرحلة على وشك الانتهاء مع الأغنية الثامنة في الألبوم والثالثة في الوجه الثاني؛ فهي تمهيد لبداية النهاية. يرى البعض أن الأغنية الثامنة مظلومة دائما، حاول معي تذكر الأغنية الثامنة في ألبومك المفضل، لتتأكد من صحة هذه المقولة.
مع الأغنية التاسعة يمكنك تذكر استراتجيات عديدة لترتيب أغنيات الألبوم، فمن الممكن تصنيف الأغنيات بشكل مخل بين الراقص والهاديء، وبعدها بمنتهى السهولة يمكن ترتيب الألبوم بأغنية من هذا النوع، وتليها أغنية من النوع الثاني، وللمغني حرية اختيار كيف يبدأ ألبومه وكيف ينهيه، إلا إن الأمور لا تسير بهذه البساطة دائما، فهناك تصنيف أخر وهو أيضا مخل بين الحب والفراق، وهو ما يزيد من الحيرة أكثر فأغاني الفراق ليست دائما هادئة، والأمثلة على ذلك كثيرة، وكذلك الحال مع أغاني الحب، كما أن هناك من يختار أغنيات ألبومه دون النظر إلى تلك التقسيمات فتكون النتيجة ألبوم مثل "قادر وتعملها" (٢٠٠٤) مقطوعة متصلة من أغاني الفراق الكئيبة.
النهاية.. الأغنية التي ربما تحمل اسم الألبوم، أو تحمل الموضوع الأكثر تعقيدا على مستوى الكلمات، ربما تكون أغنية صاخبة تليق ببداية الألبوم الصاخبة أيضا، أو تكون أغنية حزينة تليق بنهاية الرحلة، في جميع الأحوال هناك ذلك الشعور الذي يصاحب أول مرة استماع، الشعور الذي يزول في المرة الثانية بلا أي مجهود، ما بين تذكر لأغنيات بعينها تود الرجوع إليها، وبين الاستعداد للمرحلة الثانية من الاستماع وهي التعرف على صناع الأغاني، والتأكد إذا كنت متحيزا لبعضهم، أم أن الصدفة هي التي تقودك كل مرة للاعجاب بأغنيات تكتشف أنها من صنعهم.
عموما لا توجد طقوس ثابتة للاستماع، فبعد أن فضلت الاستماع ليلا، ثم الاستماع في سيارتك أثناء القيادة، والاستماع عبر سماعتك الخاصة، أو الاستماع بصحبة أشخاص بعينهم، العديد والعديد من الطقوس لكن الأكيد والذي لا جدال عليه هو أن الألبوم يٌسمع بالترتيب الذي وضعه المغني.