وللمرة الثالثة في تاريخ المهرجان يقع الاختيار على المخرج الأمريكي الكبير وودي آلان ليفتتح المهرجان بفيلمه الجديد "كافيه سوسايتي Cafe Society"، بعدما كان صاحب فيلم الافتتاح عام 2002 بفيلم "نهاية هوليوودية Hollywood Ending" وعام 2011 بـ "منتصف ليل في باريس Midnight in Paris".
الاهتمام الضخم بفيلم وودي آلان دفع المهرجان لتنظيم أربعة عروض للفيلم، على رأسها عرض حفل الافتتاح، بالإضافة إلى عرضين صحفيين متتاليين قبيل الحفل، شاهدنا الفيلم في أحدهما.
آلان العجوز الذي تجاوز الثمانين بشهور لا يزال طفلاً لعبته هي السينما، لا يتوقف عن ممارستها مهما كانت الظروف والموانع، ويكفي الرقم الذي ذكرناه في التقرير السابق من استمراره في تقديم فيلم روائي طويل واحد على الأقل كل عام منذ 1982، حتى في الأعوام التي شهدت مشكلات شخصية وفضائح يعلمها الجميع، لم يجدها وودي أبداً سبباً يكفي لتعطيله عن العمل.
ما يستحق الرصد في مسيرة وودي آلان، وبعيداً عن استمراره المثير للإعجاب، هو هذا التحوّل الجذري الذي شهدته شكل سينماه مع تقدمه في العمر.
فالرجل الذي كان أحد أوائل من وظفوا أفكار ما بعد الحداثة في أعمالهم خلال السبعينيات ومطلع الثمانينيات ـ ويكفي أن عمله التاريخي "آني هول Annie Hall" هو النموذج الأهم لسينما ما بعد الحداثة ـ أخذ منذ أعوام منحى كلاسيكي واضح على الأقل في شكل أفلامه على مستوى الصورة والسرد.
في "كافيه سوسايتي" يواصل آلان صورته النوستالجية، التي يعود بها هذه المرة إلى ثلاثينيات القرن العشرين، عبر حكاية الشاب بوبي دورفمان (جيس إيزنبيرج) الذي ينتقل من نيويورك إلى لوس أنجلوس أملاً في أن يساعده خاله وكيل الأعمال الهوليوودي الشهير (ستيف كاريل) في إيجاد عمل بالسينما، لكن التغيير الأهم في حياته يأتي عندما يعود لمسقط رأسه وينشئ مطعم ونادي "كافيه سوسايتي" الذي يجعله من المشاهير، وإن لم تساعد الشهرة والثراء كثيراً في معاناته العاطفية خاصة تجاه حبيبته فوني (كرستين ستيورات) التي تتركه وتفضل أن تتزوج من خاله.
الصورة كما قلنا ذات جماليات كلاسيكية، يتعاون فيها آلان للمرة الأولى مع مدير التصوير الإيطالي العالمي فيتوريو ستورارو، الذي يبدو هنا وكأنه الأداة المثالية ليواصل بها المخرج المخضرم رحلته في التلاعب بالماضي، ومحاولة العيش ولو بالسينما في أزمان وأماكن يوقن كل من يشاهد أفلامه الأخيرة أنه أراد أن يعيش فيها. يضاف إلى الصورة الحكي الخطي الخالِ من أي تلاعب، لنضع يدنا بوضوح على هذا الاتجاه.
هذا لا يعني أن العمل كلاسيكي بحت، فهناك بالطبع بعض التفاصيل التي يستخدمها آلان بذكاء ليعطي الفيلم طابعه الشخصي. بداية من الراوي الذي يروي الحكاية ملحقة ببعض الرأي والسخرية، دون أن نعرف هويته أو علاقته بمن في الفيلم، مما يعطي إيحاءً بأن المتحدث هو آلان نفسه يسرد لنا الحكاية بطريقته.
لديك أيضاً بناء شخصية البطل بوبي دورفمان الاجتماعي والحركي، فهو شاب يهودي من برونكس (نفس الجذور التي يعرفها الجميع عن المخرج)، طريقه حركته وحديثه قريبة جداً من الشخصية التي دأب وودي آلان على لعبها في أفلامه القديمة، وبالتأكيد المبالغة في السخرية من العلاقات داخل الأسرة اليهودية ممثلة في والدي البطل وأشقاءه، وهو مجدداً عنصر منتم قلباً وقالباً لسينما آلان، يجعل المخضرمين من جمهوره يشعرون بأن الفيلم هو ابن مخرجهم المفضل، حتى وإن لم يحمل أي مفاجأة أو تغيير لما يمكن أن يتوقعه كل من شاهد أفلام صانعه الأخيرة.
إما لو كان هناك عنصر أصيل وحيد في الفيلم بخلاف جودته التقنية التي لا تعد إنجازاً مع مخرج صنع قرابة الخمسين فيلماً، فسيكون تلك النظرة العبثية التي ينظر بها الفيلم للعلاقات العاطفية. "الحياة مسرحية كوميدية، كتبها مؤلف سادي" هكذا يقول بطل الفيلم في وصف علاقته المركبة بحبيبته التي صارت زوجة خاله، والتي لا يزال الحب في قلوبهما مع تسليم كل منهما بسعادته في حياته الزوجية (فهو أيضاً تزوج امرأة يحبها)، وبعدم قدرته على ترك زواجه من أجل نشوة حب قديم.
شكل العلاقة بين الشخصيات الأربعة في الفيلم بعيد عن الحزمة المعتادة من الأخلاق والمشاعر التي تقدمها الأفلام الهولييودية باعتبارها هي المقبولة بغض النظر عن شرعيتها، والخروج من حيز هذه الأحكام المسبقة هو ما يجهل "كافية سوسايتي" فيلماً جيداً إجمالاً، وحتى لو كان يشبه أفلام آلان الأخيرة، فعلى الأقل ينتهي على استنتاج أكثر حكمة ونضجاً من مجرد حس النوستالجيا.
بعيداً عن فيلم الافتتاح، كان أول فيلم يعرض من أفلام المسابقة الرسمية هو الروماني "سيرانيفادا Sieranevada" للمخرج كريستي بويو، أحد مؤسسي الموجة الجديدة في السينما الرومانية بفيلمه السابق الشهير "موت السيد لازاريسكو The Death of Mr. Lazarescu" الذي فاز بجائزة نظرة ما في كان 2005.
"سيرانيفادا" أقيم له عرض صحفي خاص قبل عرضه الرسمي في ثاني أيام المهرجان. وبالرغم من طول الفيلم الشديد البالغ ثلاث ساعات، فقد قابله الصحفيون بحفاوة وصفقوا في نهايته بسبب قدرة المخرج على صياغة عمل ذكي وخفيفي الظل، تدور أحداثه في مساحة زمنية ومكانية محدودة هي حفل تأبين، لكنها تكشف الكثير عن المجتمع الروماني وتأثير السياسة على شخصياته، السمة التي يمكن رصدها دائماً ضمن أفلام مخرجي هذه الموجة، وعلى رأسهم كرستيان مانجيو الذي ننتظر عرض فيلمه الجديد في المسابقة خلال أيام.