وكما قلنا في رسالة الأمس صرنا في كل يوم نترقب عرض فيلمين جديدين لأثنين من كبار صناع السينما في العالم. يوم الخميس 19 كان موعدنا مع عرض جديد الروماني كرستيان مونجيو والدنماركي نيكولاس ويندنج رِفن، مع عرض خاص لفيلم تسجيلي من إخراج الأمريكي جيم جارموش، المخرج الوحيد الذي يشارك في كان 2016 بفيلمين، أحدهما في المسابقة "باترسون" الذي تحدثنا عنه في رسالة سابقة، والآخر هو "جيمي دانجر Gimme Danger" في قسم عروض منتصف الليل.
بشكل سريع فيلم جارموش تسجيلي اعتيادي، يرصد تاريخ صعود أحد الفرق الغنائية الغريبة في تاريخ موسيقى "الروك آند رول"، هم فريق "ستودجز" المعروفين بعروضهم الغريبة وأغانيهم المكونة من 25 كلمة على الأكثر، حسبما وصف في الفيلم إيجي بوب، مؤسس الفريق ومغنيه الرئيسي.
الفيلم نفسه بلا جديد ربما لا يستحق العرض في كان إطلاقاً، ولعل رغبة المهرجان في الاستفادة إعلامياً من مشاركة مخرج واحد بفيلمين كان سبب إدراج الفيلم بالمهرجان، بالإضافة بالطبع لحضور إيجي بوب غريب الأطوار الذي أضفى جواً خاصاً عندما وقف مع جارموش في نقطة التقاط الصور الصحفية.
مونجيو وفن الحكي
بعيداً عن جارموش وفيلمه، جاءت برمجة العروض الصحفية لفيلمي المسابقة اليوم مثالية كي تمنح كل ذي عينين موضوعاً يستحق الرصد، وهو الاختلاف الكلي بين العملين على كافة المستويات، وكأن من وضع البرنامج يقصد أن نشاهد في يوم واحد فيلمين يمثلان طرفي نقيض في فهم صناعة السينما ككل، وفي عوامل تكوين كل مخرج ورسم مسار أفلامه.
كرستيان مونجيو هو أحد مؤسسي الموجة الجديدة في السينما الرومانية، بل أن فيلمه الأيقوني "أربعة أشهر ثلاثة أسابيع ويومان" هو "مانفيستو" تلك الموجة الذي بلوّر سماتها بعدما رسم رفيقها كريستي بويو (المشارك أيضاً في مسابقة كان الحالية) وكورنيليو بورومبويو معالم الطريق الرئيسية.
الموجة التي خلصت رومانيا من السينما الثورية في حقبة ما بعد تشاوشيسكو ووضعت اسم البلد الشرقي ضمن أهم الدول المنتجة لسينما ذات طبيعة خاصة.
أفلام مونجيو ورفاقه تمتاز بالبساطة الشديدة، تدور في الوقت الحاضر في رومانيا المعاصرة بعد تحوّلها للرأسمالية على طريقة شرق أوروبا.
الصورة مقتصدة خالية من أي بهرجة بصرية، والعمل يقوم بالكامل على أكتاف السيناريو والتمثيل، والسيناريو دائماً كامل الإحكام، يتحرك من الخاص للعام، برواية حكايات تقع لشخصيات فتجبرها على اتخاذ قرارات تبدو عابرة، لكن تبعاتها تتعاقب بما يكشف عما هو أكبر من أزمة فردية، ويلقي الضوء على أهم القضايا الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع الروماني، فقط بالدراما ودون أي خطابة.
"بكالوريا Bacalaureat" هو اسم فيلم مونجيو الجديد، الذي يعود من خلاله صاحب السعفة الذهبية 2007 وجائزة السيناريو 2012 لينافس في مهرجانه المفضل.
والبكالوريا هي امتحانات الثانوية العامة الرومانية، التي تستعد ابنة الطبيب بطل الفيلم المتفوقة لخوضها، استعداداً للخروج لتلقي منحة دراسية في بريطانيا ستغير من حياتها وحياة أهلها الذين نعرف لاحقاً أنهم عادوا من الخارج بعد الثورة الرومانية على أمل إفادة بلدهم فلم يقابلهم سوى الإحباط.
أحلام الأسرة تختلف عندما تتعرض الفتاة لمحاولة اغتصاب خلال ذهابها للامتحان، وبالتالي لا تتمكن من تحقيق النجاح المتوقع الذي يضمن لها المنحة، فيحاول والدها (الشريف في عمله الخائن لزوجته) لأول مرة أن يتلاعب بالقانون بالتدخل عبر معارفه كي تلقى الابنة معاملة خاصة عند تصحيح ورقة إجابتها. من هذا القرار تتوالد سلسلة من المشكلات محركها الفساد المستشري في مجتمع يتظاهر باحترام القانون بينما باطنه هو الفساد والمحاباة والمصالح المتبادلة.
عبر سيناريو شيق يأخذ المشاهد في رحلة لا ينتبه معها لتوالي الأحداث فيتورط تباعاً مع البطل، يقول فيلم مونجيو بوضوح أن الفساد يولد فساداً، وأن الصواب لا يمكن أن يترتب على الخطأ مهما سلمت النوايا، لكن هذا لا يقال إلا عبر حكاية ممتعة، تعيد الاعتبار للحقيقة التي نتناسها أحياناً وسط بحثنا عن التجديد والإبهار، وهي أن السينما بالأساس هي فن سرد الحكايات.
شكلانية رِفن الخالية من المعني
على عكس الحفاوة التي قوبل بها فيلم مونجيو فور انتهاءه، جاء أسوأ استقبال في المسابقة الرسمية على الإطلاق من نصيب الدنماركي نيكولاس ويندنج رِفن، الذي لم يكتف جمهور الصحفيين بصيحات الاستهجان في نهاية فيلمه "شيطان النيون The Neon Demon"، بل سارع أحدهم بتوجيه سبة بصوت عال للمخرج الذي تفنن في إهدار ساعتين دون الوصول من خلالهم ولو لفكرة وحيدة.
الفيلم يبدأ بأسماء عدد هائل من شركات الإنتاج والممولين، يليها "تترات" أنيقة أصر المخرج أن يجعلها مختومة بحروف اسمه الأولى NWR وكأنه ينقشها على منديل حريري وليس عمل فني يفترض أن يصل لجمهور.
الإطار العام للعمل هو حكاية فتاة مراهقة (إيلي فانينج) تصل إلى لوس أنجلوس لمطاردة حلمها في أن تصير عارضة أزياء عالمية، وبالفعل تنجح في دخول عالم الموضة لتكتشف أنه عالم مرعب، مع الإشارة في كل ما نُشر عن الفيلم قبل عرضه أن الرعب هنا بمعنى الكلمة الحقيقي لا المجازي.
بصرياً يبدأ الفيلم بشكل آسر، عندما نرى الفتاة ملقاة على أريكة والدماء تسيل من رقبتها المنحورة، قبل أن يتضح أنه ماكياج وضعته كي تلتقط أول صور ستستخدمها في مطاردة حلمها.
رِفن يبرع حقاً في تأسيس عالم بصري مبهر، كل لقطة فيه مشغولة بأدق تفاصيلها (في أول تناقض واضح مع اقتصادية مونجيو)، مع فرض جو عام على كل مشهد بالتلاعب المكثف بكل العناصر: الموسيقى والإضاءة والديكور وشريط الصوت (فارق ثاني مع المينيمالية الرومانية minimalism)، التي تقوم في الربع الأول من الفيلم بدفع المشاهد داخل جو نفسي صاخب أشبه بأجواء النواد الليلية، في أناقته الزائفة وتأثيره القائم على الإيحاء، بينما المحتوى نفسه خال من المعنى، قبل أن يزول التأثير سريعاً بتوال الأحداث دون رابط أو منطق، مع تصاعد في الغرابة الجروتسكية grotesque التي تصل في المشاهد الأخيرة لأن تأكل عارضة منافسة كرة عين البطلة!
ولأنه لا سينما دون حكاية (وهو التناقض الثالث والأهم)، فإن كل التحذلق البصري لا يمكن أن يفضي إلى شيء في فيلم يفتقد للمادة الخام للسينما وهي المشاعر.
هذا عمل بلا مشاعر ولا مواقف ولا حكاية، صانعه جمع المال من كل جهات العالم كي يمزح ويحول هواجسه إلى فيلم يعرضه أكبر مهرجان في العالم. صحيح أن هذا من حقه طالما امتلك القدرة، والسينما في النهاية هي تجسيد لهواجس وأحلام المبدعين، لكن في المقابل كان أبسط حقوق الحضور أن يصيحوا غضباً في وجه شريط أهدر ساعتين من أعمارهم بلا طائل.