تميز رمضان هذا العام بكسر لعدة تابوهات درامية وقوالب جامدة دأبت الدراما على ترسيخها حتى ملًّ المشاهدون وإن اضطروا أحياناً لسد فراغهم بها.
مسلسل "أفراح القبة" –رغم تحفظي على اختيار بعض الممثلين في أدوار لا تلائمهم، وعيوب السيناريو في الحلقات الأخيرة تحديدا- عمل فني فلسفي من طراز رفيع، ينتصر للفن رغم مصائر أبطاله الميلودرامية، والتي يبدو جيداً ارتباط تراجيديتها بخشبة المسرح، هي نداهة الفن الساحرة التي لا ترحم أحداً، أحياء أو أموات، من "تحية" لـ "طارق" لـ "عباس" لـ "درية" لـ "عم برجُل".
استطاع المخرج محمد ياسين السمو لمستوى إخراجي فريد، وتعبير بصري من أفضل ما يكون عن عمل نجيب محفوظ شديد التعقيد، وعن سيناريو بارع كان للصوت واللون واستخدام الأغاني فيه مهارة تليق بصانع فن أصيل، قل وجوده في وسيط يحتمل التكرار وبتراضي بين الطرفين –الصانع والمتلقي.
هذا الموسم أيضاً إعادة اكتشاف يسرا كممثلة في مسلسل "فوق مستوى الشبهات" إضافة إلى سيناريو عبد الله حسن وأمين جمال المحكم، وإخراج هاني خليفة السلس، الذي يسحبك رويداً رويداً نحو عالم رحمة حليم المتوتر المظلم كنفسها. واكتشاف العظيمة أنوشكا ممثلة ثقيلة مرعبة، تطل من شاشة 2016 بروح ميمي شكيب وزوزو ماضي، أناقة فيللينة شيك، قادرة على قتلك بدم بارد بينما هي تدخن السيجار.
أنوشكا مرعبة في جمالها وبرودها وشرها الناعم، بينما يسرا مرعبة في شرها البركاني، برودها الذي يخفي تحته وجه شرس متوحش، بالكاد يسيطر على نفسه أمام ما يحمل من عدائية وكره لمجتمع يستميت لينتمي له.
عبقرية الفن، هي في قدرته على استثارة المشاعر، وتحريكها، والعبث بالقلوب، حتى يبدأ المشاهدون في نسيان الوسيط الذي من خلاله يتناولون المادة التي يشاهدونها. ومن خلال وسيط التليفزيون شديد المحافظة إزاء العلاقات العاطفية، على عكس مشاهد الشتائم والعراك والعنف جنسي كان أو جسدي، وحتى مشاهد الإغواء المبتذلة، يمكنك أن تشاهد مشهداً –عزيزي المشاهد- لامرأة ترقص لزوجها، ويتم تصويره بالكامل في مسلسل، حتى تتحرك جميع غرائزك، بينما مشهد رومانسي بين ممثليّن شديدي الجمال والرقة حتماً لن ينتهي بقبلة لأنه "عيب وغلط والشهر الكريم".
عن "جراند أوتيل" أتحدث. ليس الأمر مجرد عمل فني محكم تصويراً وديكوراً وتمثيلاً وإخراجاً على يد المبدع محمد شاكر خضير، لكن تامر حبيب فيه يستعيد تألقه الكتابي الذي لم نلمح منه سوى شذرات أيام "سهر الليالي". جمل تامر حبيب الحوارية هنا أتت حرة بلا قيود، على اقتباس العمل من المسلسل الأسباني الناجح، إلا أنه طعمه بروح مصر الخمسينيات المنفتحة، وأضفى عليه من حبه لهذه الحقبة وزناً فخرج مضبوطاً لا زيادة ولا نقصان.
تشعر بتامر يبدع في مشاهد المشاعر بالذات، سواء تفتُّح قلب "سكينة" على لمحات "رقيقة" من صديق، أو نظرات "علي" لـ "نازلي" الجميلة، أو قلب "أمين" الذي ينبض بحب "ورد" اللامبالية.
قادر هذا الحكواتي البارع على أن يأخذ بيدك وينشلك من قلب أخبار تسريبات الثانوية العامة، وارتفاع الحرارة والجدل على التوقيت الصيفي إلى عالم "الجراند أوتيل" في أسوان الخمسينات، لتنتظر اعترافات "علي" لـ "نازلي"، أو تتألم مع "أمين" بينما يسكر من شدة حب "ورد"، أو تنتظر الشرخ في جدار "سكينة" الصخري من قلبها الذي تحرك بعد أعوام من دفنه وراء الشخصية الآمرة ومرارة القهر الذي حدث لها وابنها على يد أصحاب المِلك الذي تعمل فيه بالسخرة طوال حياتها.
الماتريركية أيضاً لها نصيب من كتابة تامر حبيب، "قسمت هانم" تحكم هذا الكيان كله، وتحرك كل ما فيه ومن فيه، متماسكة رغم خبطات القدر والتمرد الذي تمثله "نازلي"، حتى وهي تشاهد عالمها ينهار تراها ملكة صامدة في مواجهة الطوفان.
موسيقى أمين بوحافة من بعد "حارة اليهود" العام الماضي، اليوم تتعدى حدود الإبداع، لها لمسة السحر في مشاهد الرومانسية، خاصة المشهد الذي يخبر "علي" فيه "نازلي" بأنه ليس الشاطر حسن، وإن كانت هي ست الحسن والجمال.
الأمر ليس فقط إتقان عمل ومهارة كتابية، لكنه السحر، هنا فقط يخرج الموضوع من حيز الحسابات والقواعد المحسوبة إلى رحابة الفن غير المقيد، والذي عانينا في مصر طوال الحقبة الماضية منه.
وكما كانت أنوشكا شريرة من الخمسينات، كانت أمينة خليل حبيبة رقيقة على غرار فاتن حمامة وماجدة، بفساتينها المزدانة بالزهر وأقراطها واللؤلؤ على صدرها، بدت خارجة من فيلم بالأبيض والأسود، دون تكلف أو تصنع. لا يمكن إنكار أن حبيب وخضير محظوظان لفريق العمل الرائع شديد الموهبة، من القديرة سوسن بدر ومحمود البزاوي للجيل الصغير المتمرد أحمد داوود ودينا الشربيني ومحمد ممدوح. استحق "جراند أوتيل" لقب أفضل عمل رمضاني كونه صنع فسيفساء بين كل عناصره؛ تمثيلية وإخراجية وكتابية وتصويرية، وموسيقية.
المشهد الرومانسي الثاني هو لعمل مصري معجون بطين الأرض، لكاتب شديد البراعة، كلما تقدَّم ازداد نضجاً وإن كنت مازلت أرى "الخواجة عبد القادر" أكثر أعماله الدرامية إحكاماً واكتمالاً فنياً وروحياً. عبد الرحيم كمال، السيناريست المحلق في سماء الحب الصوفي والعشق الإلهي، نراه هذا العام بعملين "ونوس" و"يونس ولد فضة"، وكعادته يكتب شخصيات رجولية بديعة، وإن كنت أراه ينتصر لقرب الأبناء لأمهم وبشدة، عن طريق شخصيتي إنشراح في "ونوس" وفضة في "يونس ولد فضة"، فبإلغائه الذكر تماماً من حسبة العائلتين المصريتين الرئيسيتين اللتين يصورهما في المسلسلين، نجد أنفسنا أمام نموذجين فريدين لامرأتين حكمتا أُسر وأحكمتا قبضتيهما عليهما، حتى أتى العنصر المحفز لهدم الإمبراطورية المتماسكة ظاهرياً؛ "ونوس" في الأول، و"صفا" في الثاني، وانقلب السحر على الساحر.
"يونس ولد فضة" بالذات أتوقف عنده، لأنني أجده غير مكتمل، ينقصه الكثير من حيث التجديد والتجريب والإحكام البنائي للسرد، في تعليق قرأته "هو عمل بلا أحداث، لكن اعتماده الكليّ على الشخصيات".
"يونس ولد فضة" يحمل رومانسيات الأعمال الصعيدية الكلاسيكية بجدارة، والتي يعشقها المصريون رغم التقدم والانفتاح على كل ما هو غربي وعربي. مازالوا يتمنون قصص حب على غرار "رفيع بك" و"فرح"، أو "رُحيم" و"حسنات"، مازال الصعيد بالنموذج الأسطوري الحالم يفتن كل مصري غارق في نوستالجيا تليفزيون الثمانينيات بكل عيوبه الإنتاجية والإخراجية.
خلق المشاعر لعبة من لعب عبد الرحيم كمال، ورسمه لشخصية يونس الأسطورية شديد الخصوصية والتفرد، لكنها لم تكن لتنجح لو لم يكن عمرو سعد ألبسها عباءته الواسعة، وأسبغ عليها من فنه وروحه ووسامته المصرية الأصيلة. كما ذكر الناقد الأستاذ محمود عبد الشكور "وكأن يونس هو الذي بحث عن عمرو فاختاره، وكأن عمرو وجد نفسه في "يونس"، ذابت الفروق بينه وبين الشخصية، فكأنه هي."
والإشادة أيضاً يجب أن تكون بالفنانة الراقية ريهام حجاج، والتي عبرت في دور "صفا" عن فتيات صعيديات عصريات، أبعد ما يكن عن الشكل الكلاسيكي الذي تمثله شخصيات "قمر" و"شمس" و"رضوى" و"غادة" مثلاً. الكيمياء التي جمعت بينها وبين عمرو سعد تكاد من فرط الجمال تذيب القلوب، وفي مشهدي "روميو وجولييت" وانهيار "صفا" من كثرة حبها ليونس، مشاعر نسجها حوار عبد الرحيم كمال، وأصقلها أداء عمرو سعد وريهام حجاج وإن عاب الأمر الموسيقى التصويرية شديدة الرداءة والكليشية، والتي كادت تفسد المشاهد الغارقة في العاطفة، لولا تذوقهما للشخصيتين حتى النخاع.
ربما لن ترى "علي" أو "نازلي" في حياتك كلها، لاختلاف الزمان والمكان والبشر، لكنك سترى "يونس" في شاب مصري عصبي خفيف الدم لا يخشى البوح بالحب لحبيبته، يقرأ الشعر ويتمنى امتلاك الكون كله؛ الولد والجاه والسلطة والزوجة المطيعة والحبيبة البعيدة، يتظاهر بالحكمة وربما يشترك في صفحة "أقوال الحكماء" التي ترسل إليه يومياً تنويهات بالأقوال التي يستخدمها هو عمال على بطال ليزداد حكمة.
وقد ترى "صفا" في كثير من الفتيات الحائرات ما بين حب قد يدمر حياتهن، وحياة بلا حب قد تدمر أدنى ذرة عندهن للأمل. عبد الرحيم كمال لمس بعصاه السحرية قلوب المشاهدين وجعلهم يفتشون عن الحب بين من يعرفونهم، بينما تامر حبيب حلق بهم في سماء الخيال، حاملاً إياهم إلى زمن لم يعيشوه، ليحلمون حلماً جميلاً كحلم "نازلي" و"علي".