النظرة الأولى إذن لفريق عمل "جحيم في الهند" تجعلنا نفكر في أنه محاولة لاستثمار نجاح الفيلم السابق، أو لنقل استغلال خلطة نجاحه القائمة على جمع عدد كبير من مضحكي الصف الثاني يمتلكون قبولاً لكنه غير كافٍ لجعلهم نجوماً منفردين، مع نجم صاعد لا يزال هو الآخر لا يرتكن على قاعدة جماهيرية تكفل الرهان عليه كبطل منفرد، وتوظيف فريق التمثيل هذا في حكاية لها جاذبيتها المستقلة بعيداً عن أسماء أبطالها، حكاية في الحالتين مألوفة لا تدعي الإتيان بالجديد، لكنها تزرع في عقل المشاهد رغبة في معرفة كيف سيقدم هؤلاء الممثلين الذين يضحكونه عادةً هذه الحكاية التي يمتلك تصوّراً مسبقاً عن خطها العام.
للحق، لم أكن من المعجبين بفيلم "كابتن مصر"، واندهشت بعض الشيء من النجاح الذي حققه في ظل وجود عيوب ملحوظة فيه على رأسها أزمة جماهيرية (وليست نقدية) هي أن الفيلم لم يكن مضحكاً بنفس القدر الذي توحي به حكايته وقائمة أسماء المشاركين فيه. لكن الكوميديا في النهاية فن مراوغ يصعب فيه التيقن من أسباب النجاح أو الفشل. لذا فقد شاهدت "جحيم في الهند" متوقعاً أن أجد نفس الأخطاء، لاسيما مع النجاح الذي تعودنا في صناعة الكوميديا المصرية ألا يؤدي إلا لتفاقم العيوب.
المفاجأة كانت في مشاهدة فيلم جيد بحق، فيلم أكثر نضجاً وتماسكاً في كل عناصر صناعته، والأهم أنه أمتع وأخف ظلاً وهذا معيار جوهري عند الحديث عن فيلم كوميدي مطروح في موسم العيد. فما هي الفروق بين الفيلمين؟ وكيف صار "جحيم في الهند" خطوة للأمام بالنسبة لصُنّاعه؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذا المقال.
الفيلمان كما قلنا لا يزعمان تقديم حكاية مذهلة نراها للمرة الأولى، بل أن أحد دوافع المشاهدة تكون معرفتنا النسبية بمسار الأحداث قياساً على أعمال سابقة لا يُنكر صناع الفيلم محاكاتهم لها، ولكن الفارق هو أن نوع هذه الحكاية المألوف اختلف بين الفيلمين بما حدّ من قدرات الفيلم الأول وفتح باب أوسع لـ "جحيم في الهند".
الحكاية في "كابتن مصر" كانت قصة مغلقة، هي حكاية "الياردة الأخيرة The Longest Yard" التي قُدمت عدة مرات بمعالجات مختلفة منذ أن لعب بيرت رينولدز بطولتها للمرة الأولى عام 1974، عن نجم الرياضة الذي يرتكب جريمة تزج به في السجن وتنهي مشواره الرياضي، فيشكل فريقاً وراء الأسوار يحقق به نجاحاً مهنياً وانتصاراً معنوياً.
أما في الفيلم الجديد فالحكاية أكثر رحابة، لا يوجد مرجعية واضحة لها وإنما تيمة عامة عولجت في مئات الأفلام هي تيمة "المهمة الكبيرة والبطل الخاطئ"، والتي يجد فيها شخصاً (أو أكثر) نفسه مطالباً بتنفيذ مهمة أصعب بكثير من قدراته، بما يصنع مفارقات كوميدية بين المتوقع في المواقف المختلفة وما يقوم به البطل بالفعل، حتى يتمكن في النهاية بطبيعة الحال من تنفيذ المهمة بالرغم من أنه منطقياً أمر مستحيل.
هذا فارق رئيسي ليس فقط في تحديد مسار الفيلم، وإنما في مدى الحرية المكفولة للكاتب وما يترتب عليها من استجابة لدى الجمهور. فالحكاية المُغلقة تُجبر من يعالجها على مسار منطقي إن خالفه وقع في مشكلة، بينما التيمة المفتوحة أو الرحبة احتمالاتها أكثر وتوقعاتها أقل، وبالتالي يتمتع كاتبها بحرية أوسع.
تطبيق هذه النقطة يجعلنا نضع يدنا على أكبر مشكلة أخلت بمسار دراما "كابتن مصر"، وهي تغيير هدف المباراة بما يفسد دوافع الأبطال. فالكاتب عُمر طاهر (ربما لمخاوف رقابية) استبدل مواجهة فريق السجناء لفريق حرّاس السجن في الحكاية المعروفة بمواجهته لفريق أجنبي يزور مصر. الأمر الذي أفقد الشخصيات محركها الرئيسي وهو الانتقام الشخصي، فأبطال الحكاية الأصلية من المجرمين ونزلاء السجن لا يمتلك أحدهم طموحاً رياضياً، وأنما خاض معظمهم الصراع رغبة في مناطحة الحراس والانتصار عليهم بل والتنكيل بهم. الدافع الذي استغنى عنه الفيلم فباتت رغبة السجناء هي نفسها رغبة السجّانين، وصار من غير المنطقي أن يشارك بعضهم في تحقيق هدف سيُسعد من يفترض منطقياً أن يسعى السجين لمضايقتهم.
أما التيمة في "جحيم في الهند" فلا تطرح أكثر من سؤال عما سيفعله فريق من عازفي آلات النفخ عندما يجدون أنفسهم مكلفين بمهمة يفترض أن يقوم بها فريق من القوات الخاصة، وهو كما قلنا سؤال فضفاض، لا يمنح المشاهد تصوراً لمسار بعينه، وإنما يفتح الباب لكل الاحتمالات ومن بينها ما يحدث بانخراط بعض الشخصيات في المهمة المطلوبة وتورط بعضهم في مشكلات أخرى تتعلق بوجودهم في مكان غريب هو الهند، وهو تعدد في المسار يستغله المؤلفان مصطفى صقر ومحمد عز الدين بنجاح.
خلطة الفيلمين تتضمن كما قلنا وضع محمد إمام في الدور الرئيسي الذي يقود فيه مجموعة شخصيات يجسدها مضحكو الصف الثاني. شخصية البطل متقاربة جداً في العملين فهو كفء ماهر في وظيفته، لكنه غير منضبط يتعامل باستخفاف مع الصورة النمطية للمهنة بما يوقعه أحياناً في المتاعب. لكن ما يختلف هو دور المضحكين الفرعيين / أعضاء الفريق في جلب الكوميديا للعمل.
من المسلم به أن لمعظم كوميديانات الصف الثاني طريقة أداء بعينها أو مدخلاً للضحك يعتمدون عليه، تعرف المشاهد عليهم من خلاله وصار هو الطريق الأسهل الذي يرجعون إليه عندما لا يوجد في الشخصية التي يلعبونها مادة كافية للتمثيل والإضحاك، بشكل يجعلنا نرى على الشاشة شخصية تشبه ما نعرفه عن الممثل أكثر مما تشبه عالم الفيلم أو الدور المفترض للشخصية في الدراما.
بمقارنة العملين فيما يتعلق بهذه النقطة سنجد أن "كابتن مصر" اعتمد في الكثير من شخصياته الفرعية على ترك الحرية للممثل كي يلعب الشخصية المعروفة داخل سياق الفيلم. علي ربيع يلقي الأسئلة الغبية بنفس الطريقة التي تثير الضحك في عروض المسرح سبب شهرته، محمد سلام يلعب دور التابع المبهور بالبطل بصورة مشابهة جداً لدوره في "الكبير قوي"، إدوارد كالعادة ثري مدلل ضعيف أمام النساء، وطاهر أبو ليلة يستخدم من أجل نكته الأبدية المرتبطة بطريقة نطقه للكلمات.
هذا القدر من نقل صورة الممثلين الذهنية للشاشة ليس عيباً أو أمراً جديداً، بل هو الخيار السائد في أغلب تاريخ الكوميديا المصرية (راجع مثلاً الشخصيات الثابتة لزينات صدقي وعبد الفتاح القصري وحسن فايق مهما اختلف الفيلم). لكنه رغم شيوعه خيار ينقل العمل تلقائياً من حيز كوميديا الحكاية أو الموقف إلى كوميديا الاسكتشات، التي لا تشكل فيها الحكاية (التي جُردت سلفاً من جزء كبير من قوتها كما أوضحنا في النقطة الأولى) أكثر من خلفية لمنح كل ممثل مساحته كي يقدم ما يحب الجمهور مشاهدته منه، ولا فارق في ذلك بين حسن فايق يطلق ضحكته الصاخبة أو علي ربيع يسأل عن سعر اللاعب حسام "غالي".
على الجانب الآخر يكاد "جحيم في الهند" يتخلص من هذا الخيار تماماً، فيرسم لكل شخصية مسارها المستمد من الحكاية ذاتها لا من علاقة الممثلين بالجمهور. وبخلاف طاهر أبو ليلة الذي لا يملك كما قلنا سوى نكتة واحدة سيتم استنزافها عاجلاً أم آجلاً، فباقي الشخصيات جديدة لها مدخلها الطازج للإضحاك، تستفيد من طريقة الممثل في الأداء وإلقاء الكلمات، لكنها لا تعتمد فقط على هذا ولا تجعله محركاً لأي شيء بخلاف القبول. ويكفي للتدليل على ذلك مشهد تقديم شخصية البطل الذي يظهر فيه الكوميديان الشاب محمد عبد الرحمن بصورة مغايرة للشخصية المكررة التي لعبها في كل أعماله السابقة تقريباً.
مشكلة منح الكوميديان حرية تقديم ما يحبه المشاهدون منه هو أنه خيار يسلم دفة الإضحاك في الفيلم للتوقعات، والتوقع هو عدو الكوميديا الأكبر. صحيح أن جمهور علي ربيع سيضحك عندما يراه يلقي أسئلته المعتادة (على الأقل حتى يملون منها فيتوجب عليه أن يغيرها أو يحكم على نفسه بالفشل)، لكن العمل سيفقد تلك اللحظات المدهشة التي تنفجر فيها الصالة بالضحك لأن ما قاله أو فعله الممثل هو آخر ما كنا ننتظره أو نتوقعه منه.
هنا تحديداً تكمن أهم ميزة يتمتع بها "جحيم في الهند"، وهي تنويع أشكال الضحك ومصادره. لن نقوم بحرق إيفيهات الفيلم بالطبع لكننا سنقول أن الكوميديا فيه تنبع من أربعة مصادر مختلفة على الأقل. أولها هو الحكاية ذاتها والفارق بين الشكل الطبيعي للفعل وما يتم على الشاشة بسبب قدرات الشخصيات المحدودة، كالطريقة التي يقفز بها فريق من عازفي آلات النفخ مترهلي الأجساد بها بالباراشوت من طائرة محلقة مثلاً.
المصدر الثاني هو كوميديا الشخص المعتاد في المكان الغريب، وينطلق الضحك فيها ليس من قدرات الشخصية المحدودة ولكن من تصرفها بشكل معتاد (ولنقل شكل مصري جداً) بينما توجد في مكان وموقف لا علاقة له بالثقافة المحلية على الإطلاق، كالغابة أو الأسواق الهندية أو وسط قبائل آكلي لحوم البشر (وهو خطأ واضح من الكاتبين لأن مشاهد هذا الخط وشكل شخصياته تبدو أقرب لأن تدور في أفريقيا منها للهند). ونخص بالذكر في في هذا المصدر شخصية المخبر المصري في الهند التي يلعبها الممثل محمد ثروت بخفة ظل كبيرة (مع الكثير من الصخب الذي يصل لحدود الإزعاج أحياناً).
ثالث ورابع مصادر الضحك هي كوميديا كسر الإيهام والمحاكاة الساخرة (البارودي). كسر الإيهام يظهر بشكل مفاجئ في لحظات قليلة من الفيلم لتفجر الضحكات، على رأسها أكثر نكات الفيلم ذكاءً والتي يسخر فيها محمد إمام مما يقال عن تقليده لوالده النجم عادل إمام، والبارودي يأتي في مشاهد المحاكاة الساخرة لأفلام المخابرات خاصة في الفصل التقديمي للفيلم وللأفلام الهندية عند انتقال الأحداث إلى الهند. نضيف لما سبق مصدر خامس هو مساحة المألوف من الممثلين أنفسهم (والتي يحد الفيلم منها كما قلنا لكنه لا يلغيها تماماً بالتأكيد)، لنجد الناتج وجبة كوميديا ثرية بالأشكال المتباينة للضحك منحت الفيلم كثيراً من قبوله الجماهيري.
استفاد "جحيم في الهند" في هذه النقطة من نجاح "كابتن مصر"، والذي كان في وقته مغامرة إنتاجية غير مضمونة النتائج، بما يترتب على ذلك من فقر نسبي في الإنتاج والديكورات، وعلى رأسها ديكور السجن ومشاهد نجومية البطل في ملاعب الكرة، والتي تم تنفيذها في ملعب صغير أشبه بملاعب الجامعات منه لاستاد يلعب فيه نجم تتهافت عليه الأندية الكبيرة.
نجاح الفيلم الأول جعل شركة الإنتاج أكثر جرأة في تمويل الفيلم الثاني، الذي نلمس حجم إنتاجه الكبير مقارنة بالمعتاد في هذا النوع من الأفلام المصرية، ناهيك عن كون الحكاية بطبيعتها تدور في مكان مدهش وثري بالألوان المشبعة والتفاصيل البصرية مثل الهند. وإذا كانت السينما خاصة هذا الشكل منها هي عرض يُفترَض أن يكون ممتعاً على المستوى البصري، فإن "جحيم في الهند" ينجح بنسبة كبيرة في تقديم هذا العرض الذي قد يجد صدىً جيداً عند محبي الأفلام الهندي وهم كُثر.
نضيف لذلك تطور ملحوظ في مستوى المخرج معتز التوني، الذي يتخلص لأول مرة من عيب مزمن في أفلامه التي كان بطء إيقاع بعض أجزائها يفسد بعض المشاهد المضحكة والإيفيهات التي يمكن أن تُستقبَل بشكلٍ أفضل لو لم تنقل للشاشة بهذا التثاقل. في فيلمه الجديد يبدو التوني أكثر قدرة على الإمساك بالإيقاع الملائم لإلقاء النكتة وتوضيح كل موقف على حدة، اللهم إلا في خطين سنوضحهما عند الإشارة لعيوب الفيلم.
النقاط الأربعة السابقة جعلت مستوى الفيلم إجمالاً جيد، ممتع بصرياً ومضحك حقاً ويأخذ مشاهده في مغامرة لطيفة تستحق المشاهدة مدتها ساعتين. لكن هذا لا يعني كون تلك المغامرة خالية من العيوب، بل نلمس فيها ثلاثة عيوب واضحة ربما يحتاج صناع الفيلم لمراعاتها إذا ما أرادوا إضافة عمل ثالث إلى هذه السلسلة من التجارب.
العيب الأول هو عدم التناسق بين الخطوط التي تتولد عند وصول الأبطال إلى الهند وتفرُق السبل بهم، فبينما يمتلك معظمها صراعاً وتصاعداً، يعاني اثنين منها من خلو كامل من الأحداث حولهما إلى ما يشبه النكتة التي تم مطّها لتصير خطاً، وهما خطا الشاويش شامل (بيومي فؤاد) والجندي عجينة (طاهر أبو ليلة). الثاني كما قلنا يمكن قبوله في سياق حجم قدرات الممثل وشعبيته، أما الأول فمن غير المقبول إطلاقاً أن يكون هو نتاج مشاركة كوميديان موهوب مثل بيومي في الفيلم. الخط لا يحدث فيه أي أحداث، وبالتالي لا يوجد فيه أي إضحاك بخلاف عبارة يكررها الممثل بلا انقطاع.
ضعف الخطين أدى لمشكلة الإيقاع التي أشرنا إليها عند الحديث عن المخرج، فصارت الأحداث تتحرك بصخب وإمتاع في كل الخطوط، ثم ننتبه أن هناك خط راكد لم نراه منذ مدة طويلة، فيعود له المخرج من باب التذكير لا أكثر ثم يكمل مساره فيما يستحق من أحداث، وهو ما أضر بالتأكيد بإيقاع فيلم كان من الممكن أن يسير بسرعة لا يشعر معها المشاهد بأي تعثر أو تعطيل.
العيب الثاني هو عدم التناسب بين حجم التمهيد للمهمة وتنفيذ المهمة نفسها، فحوالي ثمانين بالمائة من زمن الفيلم مخصص للمشكلات التي تواجهها الشخصيات بشكل منفرد في الهند، قبل أن يتذكر المؤلفان والمخرج أن هناك مهمة عليهم إنهاؤها، فيتم تنفيذها بصورة سريعة وسهلة توحي بتلفيق يقل كثيراً عما سبقه من أحداث ممتعة، بل ويظهر خلالها العيب الثالث والمزمن في صناعة الكوميديا المصرية، وهي اللحظة التي يتحول فيها البطل إلى واعظ يلقي على زملائه وعلينا رسالة الفيلم التي لم يمكن لها هنا أي داعٍ، فهي لم تنبع مما خاضته الشخصيات ولم تؤثر في مستقبلهم، ولم تضف شيئاً لحكاية كان من الأجدر بها أن تكتفي بما تمتلكه من جاذبية وإمتاع.
لكن تأثير العيوب الثلاثة يظل محدوداً قياساً على مستوى الفيلم بشكل عام، ويظل ما يقدمه "جحيم في الهند" لمشاهده جيداً وممتعاً بما يكفي لأن نتغاضى عن المشكلات، بل وأن نُحيي صناع الفيلم على أخذهم خطوة للأمام بعد فيلمهم السابق.