ما سبق توضيح لما سنقوم به من التعرض لفيلم "أبو شنب" من مدخل يمكن وصفه بالنسوية، والسبب هو أن الفيلم الذي كتبه خالد جلال وأخرجه سامح عبد العزيز وأنتجه أحمد السبكي عمل يدعي النسوية ويلزم بها نفسه. حتى لو كان الفيلم آتٍ في إطار كوميدي خفيف صالح لموسم الأعياد، فإن ذلك لا ينفي أن حكايته الأساسية هي محاولة الضابطة عصمت أبو شنب (ياسمين عبد العزيز) إثبات كفائتها للعمل داخل سلك الشرطة ذكوري الطابع، والذي ينظر كباره للمرأة نظرة دونية باعتبارها غير قادرة على ممارسة مهنتهم القاسية.
بطبيعة الحال عصمت تنتصر في النهاية وتثبت قدراتها وتنال تقدير الجميع، لكن في سبيل هذه النهاية المتوقعة، يقوم الفيلم في كل لحظة من لحظاته بإثبات ما هو نقيض تام لفكرته.
في البداية سنضع بطلة الفيلم جانباً، وننظر للصورة التي يقدم بها الفيلم جميع الشخصيات النسائية: صورة الأنثى الضعيفة المنشغلة بالحب والأعمال المنزلية والشؤون النسائية حتى داخل موقع العمل. سيدات الفيلم (ومعظمهن ضابطات زميلات لعصمت) راضيات عن تهميشهن في أعمال إدارية مهينة من بينها تحضير وجبات الإفطار والمشروبات للضباط الذكور، ناهيك عمّن تعملن في الدعارة أو الأم ربّة المنزل.
وحتى ما يشار له بشكل عابر في مشهد جمعهن داخل مكتب الشرطة النسائية بأن منهن من تحلم بالقيام بعملية حقيقية، يتحول إلى نكتة بائسة عندما تنجح عصمت في منتصف الفيلم بجعلهن يتدربن من أجل مهمة كهذه، فتظهر كل الضابطات بنفس الصورة النمطية كسيدات ضعيفات الجسد والمنطق قليلات الحيلة، حتى أن إحداهن تحاول صد ضربة بسيطة فيؤلمها معصمها وتوقف التمرين لتبكي ألماً كالأطفال، بينما علينا أن نصدق أن هذه الفتاة الباكية متخرجة في كلية الشرطة!
الأمر يمتد ليشمل كل النساء في الفيلم، بما في ذلك ممثلة حقوق الإنسان (ليلى عز العرب) التي تكون سبب منح عصمت فرصتها في العمل، والتي تفعل ذلك في أول مرة بشكل منطقي مستخدمة فيه سلطتها كحقوقية قادرة على كتابة تقرير يضر بالضباط ممارسي التمييز الجنسي، قبل أن تنقلب هي الأخرى أنثى نمطية ويصير دعمها لعصمت في باقي الفيلم معتمد على قيامها بإغواء اللواء (لطفي لبيب) مستخدمة أنوثتها كأي صورة ذكورية نمطية لقدرة المرأة على بلوغ غرضها.
الأزمة هنا أن صنّاع الفيلم يعتقدون أن وجود شخصية "عصمت" كافٍ للتوازن مع باقي الشخصيات، بينما الحقيقة أن تميز "عصمت" ونجاحها (وهو أمر مشكوك فيه سنتعرض له لاحقاً) إن كان صحيحاً فهو لا يثبت أكثر من كونها استثناءً، امرأة نجحت لأنها تمتلك بعض صفات الرجال، لكنها في الحقيقة مجرد طفرة مختلفة عن باقي النساء اللاتي يظل المشاهد حتى بعد نجاح البطلة مؤمناً بأنهن أضعف من أن يعملن في الشرطة.
التوازن السابق يقوم منطقياً على اعتبار "عصمت" هي النموذج المثالي للمرأة التي تفرض نجاحها في مجتمع الرجال، لكن المؤسف أن مسار الدراما يؤكد عكس ذلك أيضاً. صحيح أنها تثبت تفوقاً على قريناتها في بعض الأشياء كقيادة السيارات والمهارات القتالية، لكن ذلك لا يعني الكثير في مقابل ما تبديه من سذاجة تصل أحياناً لدرجة البلاهة، وانعدام عقل يجعلها تتسبب في إفشال المهمات التي تُسند إليها واحدة تلو الأخرى.
عندما تذهب في حملة على شبكة دعارة يتمكن المجرمون من خداعها، عندما تكلف بمراقبة شوارع وسط البلد في شم النسيم من أجل منع التحرش تتصرف بغرابة فتقبض على ما يزيد عن ألف شخص، تقوم بإطلاق النار داخل مطعم عام فتفسد عملية أخرى، ثم الطامة الكبرى عندما تشارك في حملة لضبط صفقة مخدرات فلا تتمكن من ضبط نفسها وتقرر التحرك بمفردها لتؤدي لهرب الجناة، وحينما تضع خطة لضبط مختطف أطفال وتفشل فيكون رد فعلها أن تجلس على الأرض لتبكي حزناً على فشلها!
الدفاع عما سبق بالطبع هو أنه فيلم كوميدي، وأنه إذا قبلنا قيام الضابط نفسه بعمليات مكافحة دعارة ومخدرات وتحرش وإتجار بالعملة فمن التكلف أن نُمسك بتفاصيل هذه العمليات. الكوميديا تسمح فعلاً بالتجاوز عن بعض التفاصيل المنطقية، لكننا لا نتحدث هنا عن الأحداث والوقائع، وإنما عن بناء شخصية الفيلم الرئيسية التي نراها في كل لحظة تتسبب في كارثة ثم يتوجب علينا في النهاية أن نقتنع بكفائتها هي وكل قريناتها فقط لأنها نجحت في مهمة واحدة كانت لتلقي حتفها في نهايتها لولا أن تدخل الذكر القائد حسن أبو دقن (ظافر العابدين) لينقذها في آخر لحظة.
وتشكل علاقة عصمت بالضابط حسن الضلع الثاني لزعمنا بأن الفيلم يستخف بالمرأة عموماً بما في ذلك البطلة نفسها، لأنه عند لحظة بعينها في منتصف الفصل الثاني يتم تهميش رغبة عصمت في النجاح المهني لحساب حبها لحسن ورغبتها في الارتباط به، بل تكاد تنسى عدم تحققها المهني تماماً لحساب الحب لولا الصدفة التي جعلت الجريمة الأخيرة تقع أمامها فتشعر بمسؤوليتها الشخصية تجاه الضحية. وحتى بعد نجاحها في إنقاذ الأطفال المختطفين تظل فرحة نجاحها الوظيفي أقل بكثير من فرحتها ـ وزميلاتها طبعاً ـ باعتراف حسن بحبه لها.
ما سبق لا ينفي تمتع الفيلم ببعض اللحظات الكوميدية المضحكة، ولا بظهور بعض ممثليه بشكل جيد وعلى رأسهم ظافر العابدين الذي كان تعامله الجاد مع الشخصية مصدراً لتفجير ضحكات ربما تفوق الكثير من الممثلين الذين أدوا أدوارهم بقدر من التهريج. كذلك القدير محمد محمود الذي كان صاحب العلامة الكاملة في الفيلم، فتقريباً كل جملة ألقاها أعجبت الجمهور وأثارت الضحك، وهو نجاح مزدوج للممثل والسيناريو باعتبار الضحك نابع من بناء الشخصية بالأساس.
لكن هل تكفي هذه الضحكات للتغاضي عن العيوب؟ في اعتقادي كانت تكفي لو كان السياق مختلفاً، لو كانت الحكاية مجرد كوميديا خفيفة يضحك عليها الجمهور ثم ينساها. لكن الأزمة هنا هو أن الفيلم يرفع شعار النسوية، ويخوض موضوع يمس حياة كل امرأة وهو مساواتها بالرجل على الأقل في الكفاءة المهنية وتحمل المسؤولية، سيخرج كل مشاهد من القاعة وقد زرعت داخل عقله فكرة مغلوطة تدعمها الضحكات عن أن المرأة لا تصلح لمهنة مثل الشرطة، وأن سعادتها الحقيقية ستكون في العثور على حبيب وزوج قبل أي تحقق مهني.
وإذا كان الناقد لا يُلزم صانع الفيلم إلا بما ألزم به نفسه، فإن ما قدمه صنّاع "أبو شنب" هو ما جعل من الضروري أن نرصد خلل النظرة في فيلمهم، لعل عملهم المقبل يكون أكثر إنصافاً، أو أقل التزاماً بقضية قد يسيء المزاح لأصحابها.