الارشيف / ثقافة و فن / في الفن

رسالة لوكارنو السينمائي (2)- ثلاثة مهرجانات في واحد.. وافتتاح مبهر للمسابقة

  • 1/4
  • 2/4
  • 3/4
  • 4/4

بالنسبة لمهرجان "لوكارنو" السينمائي الذي انطلقت دورته التاسعة والستين الأربعاء 3 أغسطس، الأمر يشبه تنظيم ثلاثة مهرجانات على الأقل في وقت واحد. ليس بسبب الحضور الكبير لأن أعداد الحضور من الجمهور العادي والصحفيين يصعب مقارنها بالمهرجانات الكبرى مثل "كان" و"برلين"، ربما لأن "لوكارنو" ليست مدينة هائلة الحجم مثل "برلين"، ولارتفاع تكلفة الإقامة في المنتجع السويسري حتى عنها في مهرجان "كان". ولكن سبب اعتباره أكثر من مهرجان هو أن الإدارة تُعطي طابعاً خاصاً لثلاثة أنواع من العروض.

النوع الأول هو عروض "البياتزا جراندي" أو الساحة الكبيرة، الميدان الرئيسي في المدينة والذي يتحول في كل عام إلى أكبر صالة عرض مفتوحة في العالم. أكثر من ثمانية آلاف شخص يتوافدون كل ليلة على الميدان لمشاهدة فيلمين يبدأ عرضهما بعد حلول الليل على شاشة صيفية مبهرة الحجم يزيد ارتفاعها على بناية مجاورة من ستة طوابق!

عروض هذا القسم كما هو واضح موجهة إلى الجمهور العام، وساعية لإرضاء قطاع عريض من المشاهدين، لذا فهو أكثر أقسام المهرجان اقتراباً من السينما التجارية، وهو ما ظهر بوضوح خلال فيلم الافتتاح البريطاني "الفتاة التي تملك كل الحيل The Girl With All The Gifts" للمخرج كولم مكارثي.

الفيلم من أفلام ما بعد المحرقة Post-Apocalyptic films، تدور أحداثه بعد انتشار عدوى فطرية (وليست فيروسية كما هو المعتاد!) حوّلت معظم البشر إلى ما يشبه الزومبي، آكلي لحوم بشر غائبين عن الوعي إلا عندما يشمون رائحة الدم البشري. وفي مختبر يتم احتجاز مجموعة من أبناء الجيل الثاني، الذين ولدوا لآباء من الجائعين (الاسم الذي يُطلق على المرضى) لكنهم قادرين على التفكير والحديث والمعيشة بشكل طبيعي إلا عندما تثيرهم رائحة الفرائس البشرية.

لن نطيل في سرد حكاية الفيلم المشابه للكثير من الأعمال التي تدور حول نفس الفكرة، مع فارق بسيط يعطي الفيلم بعض التجديد هو الأزمة النفسية للفتاة البطلة التي تمتلك مشاعر وتحب وتكره وتساعد البشر، لكنها تدرك في قرارة نفسها أنها مجرد زومبي آخر يتحوّل عندما يجوع إلى وحش، بما يخلق سؤال هل تضحي بنفسها كي ينتج منها عقار ضد الوباء أم تحارب من أجل حقها في الحياة. وهو ما جذب جمهور الافتتاح الذي تابع الفيلم لنهايته بانتباه وتأثر برغم أنه كما قلنا لا يحمل في مجمله جديداً.

ثاني أنواع الأفلام أو المهرجان الثاني في لوكارنو هو المسابقات الرسمية، بطابعها الفني الجاد واختياراتها التي تتنوع بين الاكتشافات الجديدة في برنامجي "سينما الحاضر" لأفلام العمل الأول والثاني و"فهود الغد" للأفلام القصيرة، وبين الأعمال الأكبر للمخرجين الأكثر تمرساً في المسابقة الدولية الرئيسية.

وإذا كنا في مهرجانات عديدة نحتاج عدة أيام من مشاهدة أفلام عادية حتى يُظهر المهرجان أفضل ما لديه، فإن "لوكارنو" 69 اختار أن يفتتح عروض مسابقته الرسمية بفيلم رائع هو الفيلم البلغاري "مجد Glory" للمخرجين البلغاريان بيتر فالشانوف وكرستينا جروزيفا، واللذان أخذا خطوة كبيرة للأمام بعد فيلمهما السابق الجيد "الدرس"، الذي تنافس في مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية قبل عامين بعد عرضه في عدد من المهرجانات العالمية.

"مجد" هي ماركة الساعة القديمة التي ورثها بطل الفيلم عن والده ويعتبرها أغلى ما يملك، حتى يفقدها بشكل مستفز في احتفال أكثر استفزازاً تقيمه له وزارة المواصلات التي يعمل فيها في مهنة بسيطة هي التأكد من سلامة خطوط السكك الحديدية، حتى يعثر على حقيبة مليئة بالأموال ملقاة على شريط القطار في منطقة نائية، فيقرر أن يسلمها للسلطات لتبدأ معاناته الناتجة عما فعله!

الفيلم ينتمي لسينما أوروبا الشرقية الجديدة ويمكن بسهولة ربطه بأفلام الموجة الرومانية الجديدة، بجمالياتها المقتصدة واعتمادها على حكايات محكمة البناء، تتجاور فيها المفارقة العبثية مع نقد الحاضر السياسي والاجتماعي، تماماً كما يحدث مع "زانكو" بطل الفيلم، الفقير بسيط الحال الذي كان كل خطئه أن قرر فعل الصواب واللجوء للسلطة، ليكتشف أن الأخيرة لا يشعلها كثيراً انحياز المواطنين للصواب، بل إن هذا يثير حفيظة الفاسدين، فإما أن يصير فاعل الخير مجرد جزء من فقرة سخيفة لتجميل وجه السياسيين، أو تنقلب حياته جحيماً إذ ما فكر في تجاوز حدوده.

أما الفيلم الثاني المعروض في المسابقة الدولية وهو الفيلم البرتغالي "مراسلات Correspondências" للمخرجة ريتا أزفيدو جوميز، فجاء أقرب للأدب منه للسينما. الفيلم المأخوذ عن مراسلات الشاعر البرتغالي جورج دي سينا الذي تم نفيه خارج البلاد مع صديقته صوفيا دي ميلو التي ظل على تواصل مكتوب معها لعشرين عاماً كاملة.

الفيلم يأخذ نصوص المراسلات بينهم والمتراوحة بين الأشعار والخطابات، لتحاول المخرجة رسم معادل بصري لها كان أحياناً مناسب وكثيراً رتيب لدرجة الملل، خاصة مع طول الفيلم المبالغ فيه والذي يقترب من الساعتين والنصف لا تحتوي على حكاية فعلية بخلاف الملخص السابق.

النوع الثالث هو الأفلام الكلاسيكية والعروض الاستعادية، التي يوجه "لوكارنو" لها اهتماماً كبيراً بشكل يكاد يكون لها كما قلنا مهرجاناً كاملاً. نتحدث هنا عن عروض لأفلام المكرمين، وأفلام مختارة لكل شخص من أفراد لجان التحكيم الرسمية، بالإضافة إلى برامج استعادية خاصة منها واحد للمخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي.

أما أكثر البرامج الاستعادية ثراء فهو برنامج إعادة اكتشاف السينما في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. المهرجان يعرض 73 فيلماً مختلفة الأنواع والأطوال أنتجت كلها في الفترة بين 1949 و1963، وقام بنشر كتاب ضخم بعنوان "محبوب وملفوظ: السينما في ألمانيا الفيدرالية الشابة"، الكتاب يضم نصوصاً نقدية عن الفترة ومجموعة صور نادرة مطبوعة بجودة عالية.

لا نزال في بداية المشوار، ولكن مهرجان "لوكارنو" (أو مهرجانات "لوكارنو" كما أوضحنا)، تكشف لنا الجديد كل يوم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى